كتب الحديث

تصنيف الحديث النبوي ومعالمه المنهجية
0

حظيت السنة النبوية عند المسلمين قاطبة بقدر كبير من الإجلال والمحبة والاحترام، بالنظر لمكانتها في الإسلام، ولذلك خصوها بكامل العناية والاهتمام، وجليل الرعاية والحياطة والإقبال.

وقد كان عمل العلماء في هذا الصدد يتوخى خدمة هذا المصدر العظيم بكل ما يقتضيه الأمر، وبغاية استيعاب كل الجوانب والمستويات. 

كل ذلك من خلال جهود متسلسلة مترابطة وهادفة، وفي إطار الوعي بالظروف والمتطلبات وسائر التحديات..

وكان دأبهم في ذلك أنهم كلما أحسوا بخطر جديد يستهدف كيانها أو يمس حرمتها كان التجند منهم أكبر، والجهد والتعبئة لديهم أكثر.

وبموازاة مع هذا كله، كان هناك تطور منهجي هائل على مستوى الدرس الحديثي، يفيد من التقدم السريع للبحث في السنة النبوية، ويفتح آفاقا جديدة على مستوى التأليف الذي كان يشق طريقه نحو التكامل والرسوخ ومزيد من الإحكام في مختلف مكوناتها وفروعها ومباحثها.

وهكذا انتهى أمر السنة -بعد تجاوز مرحلة الكتابة المتفرقة في عهد الصحابة، وما تلاها من مرحلة التدوين الرسمي على يد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه- إلى مرحلة التصنيف الدقيق والمنهجي في آخر المطاف، وذلك في انسجام تام ورائع مع المتطلبات الملحة آنذاك، وبموازاة مع الحفظ في الصدور الذي لم يعرف التخلف ولا الانقطاع في أي مرحلة من المراحل.

فما هو التصنيف؟ وما أغراضه؟

يقصد بالتصنيف في عمل المحدثين إخضاع متون الأحاديث عند التأليف للتبويب والترتيب، وفق اعتبارات منهجية متنوعة. وأساس التصنيف عندهم أمران اثنان رئيسان:

الأول: الترتيب على المسانيد.

والآخر: الترتيب على الأبواب.

المسانيد: جمع مسند، وهي الكتب التي موضوعها جعل حديث كل صحابي على حدة، وهي على أنواع، منها ما هو جامع لكل الصحابة كمسند الإمام أحمد (تـ 241 هـ)، ومنها ما يتضمن حديث صحابي واحد كمسند أبي بكر، للمروزي (تـ 292 هـ) وقد يسمى هذا بالجزء، أو جماعة من الصحابة كمسند الأربعة أو العشرة..

التصنيف على الأبواب فالمقصود به ترتيب الأحاديث بحسب الموضوعات الفقهية، وفي هذا أنواع  من المصنفات كثيرة، منها:

  • الموطآت: وهي التي اهتمت بالأحكام الشرعية فجمعت نصوصها من الأحاديث المرفوعة ومن أقوال الصحابة والتابعين وفتاويهم، وأشهرها موطأ الإمام مالك رحمه الله (تـ 179 هـ).
  • المصنفات: وهي مثلها تماما كمصنف ابن أبي شيبة (تـ 235 هـ).
  • الجوامع: وهي التي تجمع الأحاديث في أبواب الدين كلها، وهي ثمانية: العقائد، والأحكام، والرقاق والزهد، والآداب، والتفسير، والتواريخ والسير، والفتن وأشراط الساعة، والمناقب والمثالب، وأعلى الجوامع شهرة وقدرا جامع الإمام البخاري (تـ 256 هـ).
  • السنن: وهي المشتملة على الأحاديث المرفوعة في موضوع الأحكام الشرعية خاصة، وأشهرها السنن الأربعة.
  • المستدركات: وهي التي وقع بها استدراك ما فات بعض الكتب من الحديث الذي هو على شرطها ولم تخرجه، كمستدرك الحاكم النيسابوري (تـ 405 هـ) على الصحيحين، ومثله الإلزامات للدارقطني (تـ 385 هـ).
  • المستخرجات: وهي كتب اعتنى فيها أصحابها بتخريج أحاديث كتاب من الكتب المشهورة بأسانيد أخرى من غير طريق مؤلفيها يقع فيها الالتقاء في شيخ المؤلف أو فيمن هو فوقه، وأحيانا إلى الصحابي وهو قليل، كمستخرج أبي نعيم (تـ 430 هـ) على صحيح مسلم.

أهداف التصنيف عند المحدثين

توخى علماء الحديث من عملهم في التصنيف أهدافا كثيرة ومتنوعة، وعلى قدر كبير من الدقة والأهمية، وهي في واقع الأمر وحقيقته إنما تنضوي تحت هدف عام هو بمثابة الشعار الأساس للمحدثين في كل ما كانوا يقومون به وهو حماية السنة النبوية من أي شكل من أشكال العبث بها أو المس بقدسيتها.

فعلى هذا الأساس إذن نعرض ما تفرع عن هذا الشعار من أهداف على النحو الآتي:

أولا: إيجاد مرجع شامل للسنة النبوية:

وذلك بغاية حمايتها من وضع الوضاعين وافتراء الكذابين، فقد أدرك العلماء أن استيعاب الأحاديث النبوية وحصر كل متونها في المصنفات هو الحل الأمثل لإيقاف هذه الظاهرة المقلقة والخطيرة، ومحاصرة من يقف وراءها من المرجفين والأفاكين، وذلك على أساس أن يقع هذا الاستيعاب بمجموع هذه المصنفات، بحيث يصير كل حديث لا يوجد في أي واحد منها مردودا على قائله أيا كان.

وأما إذا كان موجودا فيها فمعنى ذلك أن إمكانية معرفة درجته متاحة وممكنة، وذلك بناء على فحص إسناده، ونقد رجاله، والنظر في ناحية متنه.

وفي هذا الإطار كان التأليف في المسانيد الذي استغرق مرحلة طويلة من المائة الثانية للهجرة والتي كان الغرض منها إخراج كل ما روي عن الصحابي من غير التزام بالصحة ليقع الاستيعاب المذكور.

ثم تتابع التصنيف بعد ذلك في إطار هذا الهدف فأنتج ما لا يحصى من الكتب والمؤلفات.

وظل هذا الهدف عالقا بأذهان العلماء حتى بعد انتهاء فترة الرواية بحيث استأنفوا العمل على أساس ما أسفرت عنه المراحل التأسيسية من المصنفات، فكان أن قام ابن الأثير (تـ 606 هـ) بوضع كتاب "جامع الأصول في أحاديث الرسول".

وألف ابن كثير (تـ 774 هـ) كتابه "جامع المسانيد والسُّنَن الهادي لأقوم سَنَن".

وقام بعد ذلك الحافظ نور الدين الهيثمي (تـ 807 هـ) بعمل رائد في كتابه "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" تتبع بموجبه الزوائد من المسانيد والمعاجم على الكتب الستة المعتمدة، وأضاف إلى ذلك كتابا على هذا المنوال هو: "كشف الأستار عن زوائد البزار".

وتابع العملية شهاب الدين البوصيري (تـ 840 هـ) بنحو أوسع في كتابه "إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة"، وفي كتابه: "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه".

ومثله الحافظ ابن حجر (تـ 852 هـ) في كتابه "المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية".

وللسيوطي (تـ 911 هـ) كتابان هما "الجامع الكبير" و"الجامع الصغير"، نحا فيهما منحى الجمع الموسع والمستوعب لكل كتب الحديث ومصنفاته.

وعلى نهجه سار المتقي الهندي (تـ 975 هـ) في كتابه: "كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال".

 

ثانيا: بيان الثابت من الحديث من غيره:

وهذا أحد الأهداف الكبرى من التصنيف مما كانت الأمة ولا تزال في حاجة إليه، وهو يدخل في صميم مهمة المحدثين الذين فرغوا حياتهم وسخروا كل جهودهم لدرس الأسانيد وتتبع أحوال الرجال واستقراء علل الحديث وإجراء النقد في ذلك بمنهج دقيق وعميق.

وقد عملوا على تفريغ خلاصات أحكامهم على الأحاديث فيما صنفوه من المؤلفات، وذلك من خلال طريقتين اثنتين:

الأولى: بيان درجة الحديث عند إيراده وفي ثنايا التعليق عليه.

والطريقة الأخرى: تخصيص مصنفات لما هو ثابت وأخرى لغير الثابت، فكان مما تمحض للثابت كتاب الموطأ، وصحيحا البخاري ومسلم، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان..وهذه للصحيح من الحديث بالدرجة الأولى، وهناك كتب توسعت فأخرجت الصحيح والحسن ككتب السنن الأربعة.

ومن النوع الثاني أي غير الثابت المصنفات في الأحاديث الضعيفة والمعللة والموضوعة، وذلك ككتاب العلل المتناهية في الأحاديث الواهية لابن الجوزي (تـ 597 هـ) وكتاب الموضوعات له، وللصغاني كذلك (تـ 650 هـ).

وكتاب اللآلىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي (تـ 911 هـ)

وكتاب تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة لابن عَرَّاق الكناني (تـ 963 هـ).

وكثير من الأحاديث من هذا النوع منبه عليه في كتب العلل.

 

ثالثا: بيان قواعد الاستنباط الفقهي من السنة وتحديد أسس الصناعة المتعلقة بذلك:

وهذا أعظم الأهداف، ومنتهى الغايات، ولباب هذا العلم وثمرته، وهو من حيث الوجود أسبق من الصناعة الحديثية لأن بدايته كانت مبكرة.

وحيث إن المراحل الأولى للتصنيف تزامنت مع التأسيس الفقهي والأصولي فقد اختار بعض العلماء أن يجعلوا كتبهم الحديثية وسيلة لعرض اختياراتهم الفقهية وطريقتهم في الاستنباط كذلك، وأشهرهم في هذا الإمام مالك رحمه الله الذي ورث عن مشيخته فقه المدرسة المدنية التي استتبت أصولها وقواعدها وكثير من مصطلحاتها بفضل جهود أجيال متعاقبة من الفقهاء من الصحابة فمن بعدهم.

وكان من أعظم ميزات الإمام مالك أنه كان يجمع بين الصناعتين الفقهية والحديثية كما نص على ذلك عبد الرحمن بن مهدي بقوله: "الثوري إمام في الحديث وليس بإمام في السنة، والأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، ومالك إمام فيهما"[1].

واستقر الأمر في عهده على التمييز بين السنة والحديث، وأن السنة هي العمل المأثور في الصدر الأول، والحديث بخلاف ذلك.

وقد تركزت عناية الإمام مالك في موطإه على ما هو سنة، ولهذا أكثر الإمام مالك من القول: "السنة التي لا اختلاف فيها عندنا".

ولهذا أيضا كان يقول: "جالست ابن هرمز ست عشرة سنة في علم لم أبثه لأحد"[2].

وقال: "أخذت من ابن شهاب أحاديث ما حدثت بها قط، فقيل له: لم؟ قال: ليس عليها العمل".

وكان يقول: "إذا جاء حديثان مختلفان عن النبي صلى الله عليه وسلم وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحدهما وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به"[3].

وهذا الاهتمام الفقهي والأصولي وجد عند أئمة آخرين بعده، منهم الحافظ ابن حبان البستي (تـ 354 هـ) الذي ألف كتابه التقاسيم والأنواع ولم يرتبه لا على الأبواب ولا على المسانيد، وإنما قسمه بطريقة أصولية على خمسة أقسام هي:

- ما يفيد الأمر العام

- ما يفيد النهي العام

- ما يفيد المباح العام

- ما يفيد الخاص من الأفعال الذي لا يراد به التشريع العام كالسابق

- ثم الأخبار

وهذا المنحى في التصنيف منحى دقيق جدا ركز عليه هؤلاء لشدة حاجة الأمة إليه في كل زمان وأوان.

وذلك لأن الآفة تدخل على المسلمين من جهة عدم فهمه والتمكن منه فيحدث الاعتقاد بكون كل ما في الحديث يصلح للاقتداء والتعبد وعلى درجة واحدة، وهذا الذي أوقع في كثير من التشدد والحرج.

ولهذا وجد في المحدثين من سعى إلى دعم عمل الفقهاء من بوابة الصناعة الحديثية وتمثل ذلك في الهدف الآتي:

 

رابعا: تقوية عمل الفقهاء ودعم منهجهم في اعتبار العمل:

وفي إطار هذا الهدف وجد محدثون أخذوا على عاتقهم بيان ما يتعلق بالحديث من العمل، وأشهر من عرف بذلك الإمام الترمذي رحمه الله (تـ 279 هـ) الذي محض كتابه للأحاديث المعمول بها، وأبى إلا أن ينص على ذلك تنصيصا واضحا حتى يفهم عنه بكيفية لا تدع مجالا لغموض أو تشكك، فقال: "جميع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معمول به وقد أخد به بعض أهل العلم ما خلا حديثين"[4].

واختار أبو داود دعمهم وتقوية منهجهم عن طريق استقصاء أدلة الفقه من السنة فقال متحدثا عن ذلك: "وأما هذه المسائل مسائل الثوري ومالك والشافعي فهذه الأحاديث أصولها"[5].

وهذا الموقف من المحدثين يعني موافقة الفقهاء -الذين هم أصوليون في ذلك الوقت- على هذا المنحى الذي ساروا عليه، وكانوا يرون أنهم أكثر قدرة على استقصاء تاريخ الحديث والتعرف على قضية العمل به وأن مثل هذا ينبغي أن يوكل إليهم.

ولهذا صرح الإمام أبو داود في هذا السياق بقوله: "فإن ذكر لك عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ليس مما خرجته فاعلم أنه حديث واه، إلا أن يكون في كتابي من طريق آخر فإني لم أخرج الطرق لأنه يكبر على المتعلم"[6].

وقال أيضا: "وهو كتاب لا ترد عليك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صالح إلا وهي فيه"[7].

 

خامسا: إمداد مختلف التخصصات العلمية الإسلامية بما تحتاجه من الحديث النبوي:

فقد كانت مهمة أهل الحديث في حقيقة الأمر هي إسعاف الجميع وعلى مستوى المجالات كلها بما يحتاجونه من المادة الحديثية التي تعني كل فئة في تخصصها وميدانها، والمقصود هنا علماء العقيدة والتفسير والسيرة والفقه.. ممن لا سبيل لهم إلى الاطلاع على ذلك إلا من طريق أهل الحديث.

 

سادسا: تحصين المعرفة الإسلامية:

فقد كان تصنيف المحدثين للسنة متزامنا –كما هو معلوم- مع تأسيس علوم كثيرة، منها العقائد والتفسير والتصوف، وكان المحدثون يستشعرون ضرورة حماية هذه العلوم من الانزلاق، وذلك بلزوم اعتماد النص الحديثي الذي يمثل إلى جانب النص القرآني صمام أمان من مخاطر التأويل والفهم السيئ، ولهذا أشار الإمام علي رضي الله عنه على ابن عباس باستعمال الحديث في مناظرة الخوارج فقال له: "اذهب إليهم فخاصمهم، ولا تحاجهم بالقرآن فإنه ذو وجوه ولكن خاصمهم بالسنة "[8].

 

سابعا: القيام بواجب التربية والتخليق:

لم ينس المحدثون وهم في غمرة التصنيف والتقصي والنقد للحديث النبوي حاجات الأمة الدائمة إلى التزكية والتقويم الأخلاقي والروحي، وهو ما يمثل روح السنة النبوية، وجوهر الوظيفة الرسالية، وعلى هذا الأساس كانت لهم مصنفات في موضوع الزهد وضعها ابن المبارك (تـ 181 هـ) وأحمد بن حنبل (تـ 241 هـ) وغيرهما، ومصنفات في مشكلات النفوس واعتلال القلوب وشعب الإيمان والأدب وما يتصل بذلك من الموضوعات.

 

هذا، وتجدر الإشارة هنا بعد تبين هذه الأهداف إلى أن خدمة المحدثين للسنة أخذت بعين الاعتبار وجود أكثر من مستوى في الأمة من حيث علاقتها بالحديث، فكان أن وجد في عملها التصنيفي صنفان من المؤلفات:

1- صنف كان موجها للعلماء والمتخصصين، وهذا على نوعين: نوع ألف لأهل النقد والخبرة من المحدثين كالمسانيد مثلا التي لم يكن أصحابها يتحرون فيها الصحيح وحده بل يخرجون إلى جانبه غيره مما ينزل عن درجة الصحة لأن هدفهم كان هو جمع حديث كل الصحابة، وذلك على أساس أن يتلقف ذلك نقاد السنة فينقحوه ويخرجوا منه ما يصلح للعمل والاحتجاج والاستنباط.

وهذا بالضبط هو ما حصل، فقد كان القرن الثالث الذي تلا مرحلة التأليف على المسانيد قرن التنقيح والتصفية، وفيه كانت المصنفات التي اعتبرت أمهات السنة وأصول الإسلام.

وهذه المصنفات هي المقصود بالنوع الثاني، وهي ما ألف للفقهاء والمجتهدين كي ينهلوا منه مادة الفقه والأحكام المختلفة في شتى المجالات، ولذلك كان التبويب لها باعتبار الفقه خلافا لما عليه حال المسانيد.

وبهذا الاعتبار تم التعامل مع الموطإ والكتب الستة وهي أشهر ما صنف في هذا الإطار على هذا الأساس من وقتها إلى الآن.

2- والصنف الآخر كان موجها لفئات أقل من حيث العلم والتخصص، وربما يلحق بهم بعض من العامة، وهذا الصنف يتعلق بتلك المؤلفات التي جمع فيها بعض المتأخرين أحاديث محذوفة الأسانيد في موضوعات مختلفة كالأحكام الشرعية، والتربية والتزكية، والترغيب والترهيب وهكذا..

وهذا يدل على أن صلة الأمة بالحديث ينبغي أن يراعى فيها هذه الاعتبارات والاحترازات، فليس يسمح لكل الناس بالاطلاع على كل الأحاديث، وإلا كان على بعضهم فتنة، وقد كان مالك رحمه الله يقول: إن عندي لحديثا كثيرا ما حدثت به قط، ولا أتحدث به حتى أموت ثم يقول: لا يكون العالم عالما حتى يخزن من علمه[9].

وقال سفيان بن عيينة: "الحديث مضلة إلا للفقهاء"، قال أبو الوليد ابن رشد في شرحه: "وهو كلام صحيح بين معناه: لأن الحديث منه ما يرد بلفظ الخصوص، والمراد به العموم، ومنه ما يرد بلفظ العموم والمراد به الخصوص، ومنه الناسخ، ومنه المنسوخ، ومنه ما لم يصحبه عمل، ومنه مشكل، يقتضي ظاهره التشبيه، كحديث التنزل، وحديث الصورة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم {من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا، تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة} .. لأن هذا كله لا يعلم معناه إلا الفقهاء، فمتى جمع الحديث أحد، ولم يتفقه فيه، أضله بحمله في جميع المواضع على ظاهره، من الخصوص، والعموم، والتشبيه، والعمل بالمنسوخ"[10]. وأكد هذا المعنى عبد الله بن وهب فقال: لولا مالك والليث لضللت كنت أظن أن كل ما ورد يعمل به. 

 

خاتمة واستنتاجات

في الختام نسجل بعض النتائج المتوصل إليها مما له صلة بما هو منهجي ومعرفي في علاقة الأمة بالسنة النبوية الشريفة، نذكرها على النحو الآتي:

  • أولا: يبدو بما لا يدع مجالا للشك أن قصد المحدثين الأعظم من التصنيف وهو محاصرة ظاهرة الوضع قد تحقق بالكيفية التي خططوا لها، فلم يعد بالإمكان الإقدام على عمل كهذا ولا التفكير فيه حتى، وهذا من أهم النتائج التي تحتاج إلى تأمل في العقلية التي قامت بحراسة السنة النبوية وخدمتها.
  • ثانيا: استطاع المحدثون بهذه الجهود الجبارة أن يفتحوا آفاقا جديدة في البحث والدراسة، ومن أهم هذه الآفاق إتمام عملية الجمع لمتون السنة النبوية، والإسهام في إكمال مشروع المرجع الشامل الذي كانت الأمة ولا تزال في حاجة ماسة إليه.
  • ثالثا: قدم المحدثون بعملهم في التصنيف الكثير من الإشارات المنهجية المفيدة والتي من أهمها الاعتراف للفقهاء بصلاحية المنهج الذي اختاروه في التعامل مع الأحاديث التي أقر المحدثون بصحتها وإعادة النظر فيها باستعمال بعض الأدلة الإضافية في سياق بحث مدى صلاحيتها للاحتجاج الفقهي، وكان مما اختاروه في ذلك دليل العمل كما تقدم. والاستعانة بهذا الدليل تقتضي الاطلاع على سجل الحديث وتاريخه من هذه الناحية، وهو الأمر الذي نهض به المحدثون وساعدوا عليه. ومنها كذلك أن العمل الاستنباطي هو من اختصاص الفقهاء وأن مهمة المحدثين تنتهي بالجمع والتقصي والنقد.
  • رابعا: إن من أهم ما يوجبه العلم بهذين الأمرين معرفة أن الحديث النبوي ليس كله على درجة واحدة في الدلالة، ولا هو جميعه مقتض للتعبد والالتزام على نحو واحد، فلزم التحري الشديد واستعمال الحيطة والحذر في التعامل مع الحديث النبوي، بكيفية لا يمكن معها الاستقلال بفهم معانيه ولا الاستنباط منه من غير باب الفقهاء المتخصصين، حرصا على تجنب الوقوع فيما لم يرضه النبي صلى الله عليه وسلم لحديثه من تحريف المعاني بانتحال باطل وتأويل فاسد، باعتبار ذلك تهديدات قائمة ومحتملة في كل العصور.

 

[1] - القاضي عياض: ترتيب المدارك وتقريب المسالك، تحقيق محمد ابن تاويت الطنجي، المحمدية، مطبعة فضالة، ط،1: 1965 م ج1/ 153.

[2] - منح الجليل شرح مختصر خليل  لابن عليش المالكي (تـ 1299 هـ)، بيروت: دار الفكر 1409هـ/ 1989م ج1/ 20.

[3] - تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، القاهرة: دار الكتب المصرية، ط: 2، 1384هـ - 1964 م، ج2/ 387.

[4] - العلل الصغير للترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرين، بيروت: دار إحياء التراث العربي، مطبوع بآخر المجلد الخامس، ص: 736.

[5] - رسالة أبي داود إلى أهل مكة، تحقيق: محمد الصباغ، بيروت: دار العربية (ص: 28).

[6] - المصدر نفسه ص: 26.

[7] - المصدر نفسه ص: 27- 28.

 [8] - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (تـ 911 هـ) تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1394هـ/ 1974 م (2/ 145).

[9] - الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي الجرجاني (تـ 365 هـ) تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود-علي محمد معوض، بيروت: دار الكتب العلمية ط: 1، 1418هـ1997م ج1/ 176.

[10] - مسائل أبي الوليد ابن رشد (تـ 520 هـ) تحقيق: محمد الحبيب التجكاني، بيروت: دار الجيل، ط: 2، 1414 هـ - 1993 م ج1/ 673.