منذ أن انفتحت قلوب المغاربة للإسلام، واطمأنت نفوسهم للدخول في أحكام رب العالمين، عظم عندهم قدر السنة النبوية والحديث النبوي الشريف، وسمت لديهم مقتضياتها المنيفة؛ لأنها بيان لمراد الله تعالى من مجمل كلامه، وتبين لمواقع الاقتداء في سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم ودلائله وشمائله، فعكفت طائفة منهم ـ تحت نظر إمارة المؤمنين ـ على جمعها من مظانها، واختصت أخرى بتصنيفها وترتيبها على فنونها، وتألقت في تحديد طبقات نماتها، وتوصيف حالات رواتها، وتفرد سواها بتبيين رتب المرويات، وتحديد معاني الروايات، مستحضرين في كل ذلك أمانة حفظ الدين وحفظ الشريعة والقيام بحق التبليغ علما وعملا مستبصرين بما يجب مراعاته في سياق النزول وسياق التنزيل.
إنشاء منصة إلكترونية للحديث النبوي الشريف
كل هذا يدل على منزلة الدرس الحديثي عند المغاربة على مستوى الجمع والتقميش، والتنقيد والتخليص، وتتبع طرق الرواية، وترصد مسالك الدراية، كما جلى ذلك بشكل واضح الحافظ بقي بن مخلد في كتابه المسند الروائي الموعب، الذي قال فيه الحافظ ابن حزم: كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد؛ فهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه أنه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله، ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره. ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه على أسماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف. ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام، فهو مصنف ومسند، وما أعلم هذه الرتبة لأحدٍ قبله، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه، فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء، وسائرهم أعلام مشاهير، ومنها مصنفه في فضل الصحابة والتابعين ومن دونهم ، الذي أربى فيه على مصنف أبي بكر بن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق بن همام ومصنف سعيد بن منصور وغيرها، وانتظم علماً عظيماً لم يقع في شيء من هذه، فصارت تآليف هذا الإمام الفاضل قواعد للإسلام لا نظير لها.. وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه وجارياً في مضمار أبي عبد الله البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري وأبي عبد الرحمن النسائي رحمة الله عليهم [1].
…ثم قال: وإذا سمينا بقي بن مخلد لم نسابق به إلا محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري وسليمان بن الأشعث السجستاني وأحمد بن شعيب النسائي..[2].
وقال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة ابن السكن سعيد بن عثمان بن سعيد المصري الإمام، الحافظ، المجود الكبير، أبي علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن المصري البزاز، وأصله بغدادي. نزل مصر بعد أن أكثر الترحال ما بين النهرين: نهر جيحون، ونهر النيل، مولده سنة أربع وتسعين ومائتين… وأعانه على سعة الرحلة التكسب بالتجارة. جمع وصنف، وجرح وعدل، وصحح وعلل؛ ولم نر تواليفه، هي عند المغاربة[3].
وهذا يدل على قوة الدرس الحديثي في الأندلس رواية ودراية ، وتقميشا وتفتيشا، وتصنيفا وتفسيرا؛ ويشهد له مستوى الأعلام الكبار في التمكن من هذا الفن وإحسان التخصص فيه والتأليف في فنونه المختلفة والتمييز بين أصول الروايات المتنوعة، ومراتب توصيفات النماة المتباينة، ودرجات أنواع المرويات المتناقلة التي توثقت إسهاماتهم في هذا الفن الملي الحسي في كتب جمهرة تراجم علماء الغرب الإسلامي، وسائر كتب التراجم المؤرخة لتنقلاتهم، وأنواع رحلاتهم، ووجهات طلبهم، ومواقع إفاداتهم واستفاداتهم، وأعيان مشايخهم، وقدر تلاميذهم، وأنواع تصنيفاتهم وتوصيفاتهم وأقدارهم ومنازلهم، وطبيعة مهامهم في المجتمع والدولة، أداء لحق العلم، ووفاء لأمانات الشريعة ائتمانا وبلاغا وشهادة وإمامة وقدوة صالحة تشوق للدخول في هذا الدين، وتسعد بقبول ما يجب من أحكامه وسني إرشاداته.
أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، يحدث برنامج الدروس الحديثية لخدمة الحديث النبوي الشريف
اقتضى النظر السديد لمولانا أمير المؤمنين محمد السادس سيرا على سنن سلفه الأخيار، وانتهاجا لنهج أجداده الأبرار، إحداث برنامج الدروس الحديثية الذي يوكل إليه بيان حقيقة الاصطلاحات، وتحقيق رتب المرويات، ويجاب فيه عن صنوف الإشكالات المفندة لمقولات النابتات، ويكشف به عن صنوف الزيف في الموضوعات والمختلقات، وتجدد بمحاوره أوجه العناية بالسنن السنيات، وتعرض فيه تباعا ملامح عناية المغاربة بالسنة النبوية منذ أن أكرمهم الله بالإسلام من خلال الحلقات الدراسية، والكراسي التعليمية، والمجالس السلطانية، والدروس الحسنية، ودار الحديث الحسنية، وأنشطة المجالس العلمية، والمسابقات الوطنية، والجوائز التقديرية، التي يعد من أجلها في العصر الحديث وأبرزها في مجال صنعة التحديث والفسر، جائزة محمد السادس لأهل الحديث، التي تُذَكِّر أهل العقل فينا بفضل خدام السنة الذين تفرغوا لتناول أهم القضايا الروائية القاصدة لبيان شرط ثبوت السنة، وكشف صنوف الإضافات البشرية المفتعلة فيها لفظا أو معنى، التي يتأسس عليها روح هذا البرنامج المولوي الذي يتقصد فيما يتقصد: بيان منزلة السنة، ورفع صنوف التحديات التي واجهتها وتواجهها، وعلاج الاختلالات، وإسكان الاهتزازات، ورد ما تعرضت له من هجومات يثيرها بعض منتجي المادة الدينية، ممن أعطوا لأنفسهم الحق بالتفرد في الكلام في الأسانيد والمتون بالأهواء المتبعة، غلوا وانتحالا وسوء تأويل…
إنشاء منصة إلكترونية للحديث النبوي الشريف
توجت كل هذه الأوجه من العناية المتفردة، والرعاية المتجددة، بإنشاء منصة إلكترونية للحديث النبوي الشريف تخدم السنة بصيغة عصرية جديدة ،أوكلت إلى لجنة علمية متخصصة رأت بعد إرجاع النظر، أن تعتمد في الخطوة الأولى على جمع متون أهم الأعمال الحديثية المغربية الجامعة لجمهور سنن النبي صلى الله عليه وسلم المحتج بها في الموطأ للإمام مالك بن أنس، وصحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري المسمى بالجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه؛ وصحيح الإمام مسلم المسمى بالمسند الصحيح بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها أصح الكتب حديثا، وأكثرها صوابا، وأحسنها قبولا، وأنفسها إرسالا، وأسدها بلاغا، وأكرمها ترتيبا، وأبدعها تنسيقا، وأبرعها اختيارا، وأجمها اشتهارا، وأقربِها تناولا، وأعمقِها فقها وفهما، وأوعبها غاية وقصدا، وأولاها تقدما وسبقا، وأنفعها ترتيبا ونظما، وأوسعها تبثيتا ونشرا، وأكثفها سماعا وأخذا، وأمهرها تمييزا ونقدا، وأوضحها معنى وشرحا وبسطا، وأبرؤها لفظا معمى ومعنى مغطا، وأشهرها أداء وحملا، وأبسطها تحميلا ونقلا،وأتقنها ترجيحا وميزا، وأغمرها إنماء، وأشدّها اعتناء، وأدثرها فسرا، وأطيبها نشرا، وأشرفها توفيقا، وأزكاها تخليصا، وأعلاها حُمَّالا، وأتقاها رجالا.
فلم يكن لأجل ذلك خلاف على هذه المكانة المستحقة لهذه الأصول الأمهات بين مجموع مصنفي دواوين السنة السائرة، لجمعها لأصول شريعة الإسلام،وانتقائها لعيون الأخبار والآثار ، ـ المراعية للوثاقة اشتغالا وتنزيلا وتسننا وتخلقا ـ ، وبَدَاعَة سابقة في منهج الترتيب لتحصيل واجب التقريب ـ الجامع لحجج أركان الدين بشرط العمل الصحيح التي يُؤدى بها حق التكليف ـ، والمؤسس على اعتماد ما تحته عمل، الوفي لاحتياجات المكلفين في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والأخلاق…والتقيد بالعمل المدني النقلي أصل العلم المنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم إلى الخلفاء الراشدين وأهل الشورى في أيام حكمهم، والمترئسين من تلاميذهم الذين حظوا بشرف تزكيتهم، ونالوا قدر الاقتداء بهديهم، والتشبه بهم في سمتهم ودلهم.
اعتمدت اللجنة المكلفة في جمع عيون ما في هذه الأمهات على الدواوين الجامعة بينها بالشرط المغربي في الرواية وفن الجمع الملخص المقرب للمتفرق من سنن النبي صلى الله عليه وسلم :
أولها: كتاب الموطأ، رواية الفقيه أبي محمد يحيى بن يحيى الأندلسي ثم القرطبي العربي ثم الليثي بالحلف البربري ثم المصمودي ، المتوفى سنة 234 من طريق ابنه عبيد الله بن يحيى، عن أبيه، التي هي معول المغاربة في الرواية، والتدريس، والشرح، وتفسير اللفظ الغريب. لا يرجعون إلى غيرها رغم أنهم تحملوها عن أصحابها بالسند المعتبر، كما هو بين في فهارسهم وأثباتهم وبرامجهم ومشيخاتهم.
وقد عبر عن أصالة ذلك الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في قوله: وإنما اعتمدت على رواية يحيى بن يحيى المذكورة خاصة، لموضعه عند أهل بلدنا من الثقة والدين والفضل والعلم والفهم، ولكثرة استعمالهم لروايته وراثة عن شيوخهم وعلمائهم …فكل قوم ينبغي لهم امتثال طريق سلفهم فيما سبق إليهم من الخير، وسلوك منهاجهم فيما احتملوا عليه من البر، وإن كان غيره مباحا مرغوبا فيه[4].
ثانيها: كتاب الجمع بين الصحيحين ـ البخاري ومسلم ـ لأبي محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي المتوفى سنة 582، الذي بين في مقدمته أنه اختصر فيه كتاب الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القُشيري النيسابوري رحمه الله، فحذف إسناده، وأسقط تكراره، واقتصر من السند على اسم الصاحب خاصة إلا أن تضم ضرورة إلى ذكر غيره ، وجمع بينه وبين كتاب الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجُعفي - رضي الله عنه وزاد إليه كل ما زاده على كتاب مسلم من كلمة فما فوقها، وذكر اسمه عند ذكر حديثه، ونبه على زيادته..وإن خَرَّج أحدهما الحديث عن صاحب، وخَرَّجه الآخر عن صاحب آخر بينه. وإن اتفقا لم يذكر فيه شَيئًا. وكذلك في الكلمة والكلمات..وإذا اختلفت ألفاظ حديث البخاري مع حديث مسلم اختلافا كثيرا، وخاف أن يستقرأ منه حكم أثبته، ولم يبين ما بينهما من الاختلاف.. وقد يجيء الحديث في كتاب مسلم في موضع واحد، ويجيء في كتاب البخاري في مواضع قد كرره فيها، لما فيه من التفقه. فما كان من هذا النوع قال فيه أو في كثير منه: خرجه البخاري في باب كذا، وفي باب كذا، أو ترجم عليه كذا وكذا..وإذا كان لمسلم حديث مختلف الألفاظ وذكره بألفاظه، قال في آخرها: لم يخرج البخاري هذا الحديث، يريد أنه لم يخرجه كله، ولا لفظا منه. وإن أخرج بعض ألفاظه بين ذلك، وإذا قال: وفي بعض طرق البخاري كذا مما لم يذكره مسلم من الألفاظ أو المعاني فقد وقع له مثل الذي وقع لمسلم أيضا، بلفظه أو بمعناه.
ورتب هذا المختصر على رتبة كتاب مسلم، وبلفظه ذكر حديثه، وإنما أسقط من تكراره ما كان لفظه متفقا أو قريبا من ذلك، كان عن صاحب واحد.
وجعل زيادات البخاري في المواضع التي تليق بها، إن كانت كلمة زائدة على حديث في كتاب مسلم، أو كلمات جعلها بإزاء حديث مسلم الذي ينقص منه تلك الكلمة أو الكلمات، وإن كان حديثا كاملا جعله عند نظيره من كتاب مسلم، إن كان له فيه نظير، وإن لم يكن له فيه نظير جعله فيما يقارب معنى فيه، أو حيث رأى ـ رحمه الله ـ ..
وإذا وقع الحديث لمسلم في كتاب الصلاة مثلا أو في كتاب الزكاة، ووقعت الزيادة من كتاب البخاري أو الحديث في ذلك الكتاب بعينه، ربما ذكر الباب الذي وقعت فيه تلك الزيادة أو ذلك الحديث، ولم يذكر الكتاب إلا أن يجيء قرينة يذكره بسببها، وإن وقعت في كتاب آخر ذكر الكتاب والباب، وربما ذكر الكتاب وحده إن كان الكتاب صغيرا ولم يكن الباب مما يتفقه فيه؛ لصغر الكتاب وقرب طلبه، لمن أراد تأمل ذلك في الأصول، ومهما وقع في هذا الكتاب حديث للبخاري، ولم يذكر انفراده به عند ذكره، فليعلم الناظر فيه أنه لم يخرج في هذا الكتاب من حديث البخاري إلا ما كان زائدا على ما في كتاب مسلم، فلا يسترب من ذلك، إلا أن يخرجه على الوجه الذي شرط فيما تقدم.
ثالثها: كتب السنن الأربعة المعتمدة وهي:
- سنن أبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السَِّجِسْتاني المتوفى سنة 275.
- جامع أبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، المتوفى سنة 279.
- المجتبى من السنن لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي المتوفى سنة 303.
- سنن ابن ماجة أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني المتوفى سنة 273.
وقد جمعنا الخالص منها دون المكرر من خلال كتاب جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد للإمام محمد بن محمد بن سليمان السوسي الروداني المغربي المالكي المتوفى سنة 1094 هـ، الذي قال عنه الشهاب أحمد بن قاسم البوني: « إن جمعه أحسن من جمع الهيثمي[5]».
وقد اقتضى نظر الإمام الروداني أن يضيف إليهما سنن ابن ماجة سادس الستة، الذي أخرجه جامع الأصول منها،.. والتزم أنه أينما عثر على حديث مكرر عندهم في أبواب أثبته في أليق تلك الأبواب به, وحذفه في غيرها إلا لفائدة..، والحديث الذي تعدد من أخرجه ذكره بلفظ أحدهم، وسياقه، وتارة يذكر من له اللفظ، وتارة لا يذكره ..
وقد أثبتت اللجنة المكلفة من هذا الكتاب الأحاديث التي عزاها الإمام الروداني إلى السنن الأربعة بشرطه في الجمع والاختصار الوفي بالغرض بلا تكرار، ليكون هذا العمل إن شاء الله جامعا لكل معاني السنن المفرقة في هذه الأصول بحيث لا يفوت منها إلا ما لا ضرورة لكتابته، ولا موجب لعده و إحصائه، إذ القصد المطلوب محصل فيما أثبت من جواهر هذه الأصول، وانتخب لإفادة نبهاء أهل العقول.
واكتفت اللجنة بإدخال الضروري من النصوص دون تكرار لأنه ـ كما قال الإمام مسلم رحمه الله: «إنما يرجى بعض المنفعة في الاستكثار من هذا الشأن، وجمع المكررات منه لخاصة من الناس ممن رزق فيه بعض التيقظ، والمعرفة بأسبابه وعلله، فذلك إن شاء الله يهجم بما أوتي من ذلك على الفائدة في الاستكثار من جمعه، فأما عوام الناس الذين هم بخلاف معاني الخاص من أهل التيقظ والمعرفة، فلا معنى لهم في طلب الكثير، وقد عجزوا عن معرفة القليل[6]«.
وحجبت اللجنة أحاديث قد تكون موضوع سؤال أو محل استفسار، وثق رواتها، واتصل إسنادها، لما تبين لها قوة إشكال ظاهرها، أو ضعف معانيها ومراميها، أو شذوذ مؤثر لائح فيها، إذ لا يجوز أن تخالف الرواية في مقصودها ما لا يجوز خلافه مثل: صريح القرآن، أو صحيح السنة، أو مستند العمل المتوارث، أو مسلمات التاريخ المتناقل، أو موجبات العقل الصريح، أو فصيح اللغة والبيان المليح، أو ما كان عليه الواقع الذي ظهرت فيه. لحصول الاتفاق على وجوب رد كل ما ورد مباينا لهذه الأصول، مضادا لمقتضى مسلمات العقول.
وقد دل على صحة حجب بعض ما يؤدى من الروايات التي قد يسندها الأثبات، ويوصلها المعدود في الثقات، قول أشهب بن عبد العزيز: سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة؟ فقال: «لا والله حتى يصيب الحق وما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صوابا جميعا وما الحق والصواب إلا واحد [7]».
وفي سماع عبد الله بن وهب , عن مالك , أنه سئل , فقيل له: أترى لمن أخذ بحديث حدثه ثقة , عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة؟ قال: «لا والله حتى يصيب الحق , وما الحق إلا واحد لا يكون الحق في قولين يختلفان[8]».
ولذلك لما سأله زياد بن عبد الرحمن شبطون عن الحديث الذي يذكر أن أهل الجنة البُلْه، أنكر ـ ظاهر ـ هذا الحديث، وقال: رأيتَ أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب، أكانا أبلهين؟ ثم التفت إلينا فقال: إن أهل العقل أولى بذلك منهم[9].
وقد أبقت اللجنة على جملة من الآثار لا يراد منها ظاهرها، ولا يقصد منها إعمالها ، لاحتياجها إلى الأصول الحاكمة على معانيها والقواعد المحددة لمداليلها والمبينة عن حقيقة مخارجها وأسباب ورودها، وافتقارها إلى من يبث فيها بفهوم أهل العلم المتقدمين، وفقه أهل النهى المختصين، الجامعين بين صناعة الفقه وصناعة المحدثين، رفعا لتصور التعارض، ودرءا لإيهام التناقض، ودفعا للقول بخلاف مبدأ التوحيد، أو النطق بما يخالف السَّنن الحميد، والخلق الزكي الرشيد، الجامع لمعالي الأمور التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم، والحاوي لمكارم الأخلاق التي أتى بها شرفه الله وعظم.
وهذا مذهب مأثور عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: عمر بن الخطاب الدي كان يقول: «أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم[10]»؛ وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان يقول على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حدثوا الناس، بما يعرفون ودعوا ما ينكرون[11]، أتحبون أن يكذب، الله ورسوله[12]»، ومذهب عبد الله بن مسعود الذي كان يقول: «ما أنت محدث قوما حديثا لم تبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة[13]»..
وهو اختيار مالك الإمام رحمه الله الذي كان يستكثر التبسط في الرواية، ويستقبح التوسع في تطلب الأسانيد بلا دراية، ويرى ذلك موجبا لأداء النكر، ومؤديا لإسماع الشاذ والنطق الإمر، ومؤذنا بإغفال النظر في المعاني، وفقه دلالة الألفاظ والمباني، الذي كان عنوان العلم الممدوح، وشاهد التبصر الممنوح.
فقد قال مرة لعبد الله بن وهب: «اتق هذا الإكثار وهذا السماع الذي لا يستقيم أن يحدث به.. لقد سمعت من ابن شهاب أشياء ما تحدثت بها، وأرجو أن لا أفعل ما عشت..»[14]؛ إنه لم يكن يَسْلَمُ رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً أبدا[15]. ولما قيل له: عند ابن عيينة أحاديث عن الزهري ليست عندك، قال: وأنا أحدث عن الزهري بكل ما سمعت، إذا أريد أن أضلهم[16].
ولذلك كان يقول: العلم يريد التفقه التدبر ـ حيث شاء الله جعله، ليس هو بكثرة الرواية[17]؛ إنما العلم نور يجعله الله تعالى في القلب[18].
وهذا الذي حمل الحافظ عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري أن يقول: «لا يتفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع منه[19]». ودعا الحافظ عمار بن رزيق التميمي إلى أن يقول لابنه ورآه يطلب الحديث: «يا بني اعمل بقليله تزهد في كثيره [20]». وجعل الحافظ أبا عمر ابن عبد البر يقول في عامة محدثي زمانه: «أما طلب الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عصرنا اليوم دون تفقه فيه ولا تدبر لمعانيه فمكروه عند جماعة أهل العلم[21]». «والذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار دون تفقه ولا تدبر، والمكثر لا يأمن مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لروايته عمن يؤمن وعمن لا يؤمن[22]».
..كما التزمت اللجنة العلمية بمعارضة أحاديث الجمع بين الصحيحين لعبد الحق الإشبيلي، بمتون صحيح البخاري وصحيح مسلم ، ومقارنة أحاديث جمع الفوائد لمحمد بن محمد بن سليمان الروداني بسائر متون السنن، إعمالا لواجب التثبت، وزيادة في التوثق والتريث ، ودفعا للوهم المحتمل في النقل، أو السهو العارض في النسخ من الأصل، في أفق ضمان إظهار النص على صورته، وإثبات السياق على سننه بخاصة رسمه، وأداء حق العزو بأمانته وحقه، الذي لا ينبغي أن يخطئ طريق الائتمان على مساق اللفظ على هيئته، كما خرج عند أهله وخاصته؛ وهو ديدن حفاظ المغاربة المشهورين، وصنيع الأئمة المعللين اليقظين، الذي تشهد لذلك نسخهم وأصولهم، ويزكيه خطهم وشكلهم، ويقويه عجمهم وعزوهم، ويعززه اهتمامهم بالتنصيص على النقط، ويؤيده اعتناؤهم بالتقييد بالخط، الذي يحمي من عويص الإشكال، ويحفظ من فتنة الخلط وبلية الإهمال.
رابعها: تخريج أحاديث السنن الأربعة التي هي سنن أبي داود، وجامع الترمذي، ومجتبى النسائي، وسنن ابن ماجه اعتمادا على اختيار مشترطي الصحة مثل أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة المتوفى سنة 311، وأبي حاتم محمد بن حبان بن البُستي المتوفى سنة 354، وأبي عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف بابن البيع المتوفى سنة 405، ثم على التنصيصات النقدية المنثورة في أعمال الأئمة المشهود لهم ببلوغ درجة الحفظ، والاشتغال بالتصنيف في علم الحديث رواية ودراية مثل: الأحكام الوسطى لعبد الحق الإشبيلي المتوفى سنة 581، والموضوعات لابن الجوزي المتوفى سنة 597، وبيان الوهم والإيهام لابن القطان الفاسي المتوفى سنة 628، ومختصر سنن أبي داود لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري المتوفى سنة 656 ، وخلاصة الأحكام للنووي المتوفى سنة 676، وتنقيح التحقيق لابن عبد الهادي المتوفى سنة 744، ونتائج التحقيق لشمس الدين الذهبي الموفى سنة 748، ونصب الراية لجمال الدين أبي محمد الزيلعي المتوفى سنة 762، وكشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح لصدر الدين محمد بن إبراهيم المناوي المتوفى سنة 803، والبدر المنير لابن الملقن سراج الدين أبي حفص عمر بن علي المتوفى سنة 804، والمغني عن حمل الأسفار في الأسفار للحافظ زين الدين العراقي المتوفى سنة 806، والتلخيص الحبير، وفتح الباري وتخريج أحاديث الأذكار ثلاثتها للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي العسقلاني المتوفى سنة 852، والمقاصد الحسنة المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة لشمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة 902، المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي لأبي الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني المتوفى سنة 1380 ..
خامسها: ثم اتفق رأي اللجنة على إدخال زوائد مسند الإمام أحمد بن حنبل وابنه عبد الله أبي عبد الرحمن التي تزيد على الكتب الستة من كتاب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ أبي الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي؛ الذي وصفه العلامة أبو عبد الله محمد بن جعفر الكتاني بأنه لم يوجد مثله كتاب ولا صنف نظيره في هذا الباب [23]؛
وقد جمع فيه الحافظ الهيثمي زوائد مسند الإمام أحمد، وأبي يعلى الموصلي، وأبي بكر البزار، ومعاجيم الطبراني الثلاثة ـ الكبير والأوسط والصغير ـ ، وحذف أسانيدها لكي تجتمع آحاد كل باب منها في باب واحد[24].
والغرض من هذا الإدخال أن يصير الواقف على هذه الزوائد، وعلى ما 25 جمعه الحافظ عبد الحق الإشبيلي بين الصحيحين، وما اصطفاه سليمان الروداني من السنن الأربعة، محيطا بمعانيها المسندة، مالكا مجموع متونها المفردة، مستغنيا عما فيهما من أسانيد ومتون مكررة.
سادسها: استخراج أحاديث كتاب المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، لشمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي المتوفى سنة 902هـ، الذي بين فيه بالعزو الصريح والحكم الصحيح، ما اشتهر على ألسنة الناس، مما يظن أنه من الخبر المنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم انتهاء لا يتبين حقيقة النسبة فيه إلا العلماء المختصون بصنعة الحديث، درءا لفتنة نسبة الموضوع إليه صلى الله عليه وسلم، وتحذيرا من بلية إيراده والعزم على إعادته وترداده والغفلة عن تحريمه، إلا بعد ثبوته وتفهيمه، من حافظ متقن في تثبيته، مسلم لتعديله وتجريحه وصحيح جده في فصله، لما علم من خطورة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم المعدود بلا خلاف في أكبر الكبائر.
ثم عرجت اللجنة على المرويات المصنوعات، والحكايات المنتحلات، فانتخبت طائفة من مستقبح الروايات المختلقات، وأحصت جملة من السياقات المنكرات، تنصيصا على بطلانها، وتذكيرا بخطورتها، وتحذيرا من روايتها، وتنبيها على فساد مساقاتها ومضمراتها؛ معتمدة على أشهر كتب الموضوعات، ومستندة إلى أعرف المصنفات في المعاني المفتريات مثل:
- ذخيرة الحفاظ المخرج على الحروف والألفاظ (ترتيب أحاديث الكامل لابن عدي في تراجم الضعفاء وعلل الحديث) ، لأبي الفضل محمد بن طاهر بن علي بن أحمد المقدسي الشيباني، المعروف بابن القيسراني المتوفى سنة 507هـ
- والأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير لأبي عبد الله الحسين بن إبراهيم الهمذاني الجورقاني المتوفى سنة 543هـ
- والموضوعات لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي 597 هـ
- والموضوعات لرضي الدين الحسن بن محمد الصغاني الحنفي المتوفى سنة 650هـ
- وتلخيص الموضوعات لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي 874 هـ
- واللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، السيوطي المتوفى سنة 911هـ
- وتنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة والموضوعة لنور الدين، علي بن محمد بن علي بن عبد الرحمن ابن عراق الكناني المتوفى سنة 963هـ
- والأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة لأبي الحسن نور الدين علي بن سلطان محمد، الملا الهروي القاري المتوفى سنة 1014هـ
- والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع له أيضا.
- وتذكرة الموضوعات لمحمد بن طاهر بن علي الصديقي الهندي الفَتَّنِي المتوفى سنة 986هـ
- والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني محمد بن علي 1250 هـ
- واللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع، لمحمد القاوقجي الطرابلسي 1305 هـ
- وتحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين لمحمد البشير ظافر الأزهري 1325 هـ
- والمغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير للشيخ احمد بن الصديق الغماري 1380 هـ
- المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي لأبي الفيض أحمد بن محمد ابن الصديق الغماري الحسني المتوفى سنة 1380 هـ