من أهم مجالات عمل المجلس العلمي الأعلى التي ينص عليها الظهير الشريف، العناية بالتراث الإسلامي والاهتمام به، والاجتهاد في إظهاره وإحيائه، لأنه يمثل فكر الأمة وتاريخها وحياتها، ولأنه أساس نهضتها وسند اجتماعها على خصوصياتها التي تعاقبت عليها الأجيال.
لقد جعل أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله في عنق المجلس العلمي الأعلى الذي يشرف برئاسته السنية، أمانة تحقيق الموطأ للإمام مالك رضي الله عنه تحقيقا علميا وفقا لقواعد الفن، يعلو على كل التحقيقات التي عرفتها المكتبات الإسلامية في العالم الإسلامي في القديم والحديث، ويسمو على الأخطاء المتعددة التي وقعت في الأعمال السابقة، ليكون باكورة أعمالها العلمية النموذجية، التي تخرج على الوجه الموافق لصورة الرواية المسندة الموافقة لهيأة صدورها، الوفية لشرط المحدثين المتقنين في التناقل الروائي الصحيح.
يقول حفظه الله في نطقه السامي:.. كما نكلف اللجنة الدائمة لإحياء التراث، بالعمل على تحقيق كتاب "الموطإ"، لإمامنا مالك بن أنس، رضي الله عنه، تحقيقا علميا متقنا، يليق بموضوعه، وبالمكانة التي يحظى بها لدى المغاربة، وإننا لننتظر من هذه اللجنة استدراك ما فات طبعاته السابقة، وذلك بالرجوع إلى مخطوطاته المغربية الفريدة، ليطبع في حلة وطنية أصيلة، جديرة بالمغرب، كمنارة مشعة للفقه المالكي[1].
استحضرت اللجنة العلمية التي كلفها فضيلة العلامة السيد الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى سيدي محمد يسف بتحقيق الموطأ، مضامين هذا النطق السامي الذي جمع خصوصيات هذا الأصل السلفي الفريد الجامع للضروري من تصرفات نموذج التعبد المصطنع للاهتداء، المراعي للوراثة النبوية المعصومة المتلقاة تلقينا وتمثيلا وتمرينا في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ـ روحِ العالم الإسلامي وقلبِه ـ التي اسْتُحْفِظَ عليها القائمون بحق العلوم الملية من الخلائف في جميع الأعصار.
الخصوصيات التي وجب استحضارها لأداء دَيْن تنظيف الموطأ مما التصق به، واستدراك ما فات الطبعات السابقة
1 - مكانة الإمام مالك بن أنس: مجدد الأمة، إمام الأئمة، أمير المؤمنين في الحديث، أحد حجج الله على خلقه، المتفق على علو قدره في كل مسار التناقل بلا خلاف بين المتكلمين في الدين على اختلاف مذاهبهم وتنوع اختياراتهم وتباين تخصصاتهم، لإحاطة العلم بأنه أقيم له الصراط المستقيم المنصوص عليه بحق العلم الصحيح في الحديث المرفوع رفعا صريحا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال السلف عن تحقيق إنه المراد بالحديث، لكونه كان في زمنه أعلم من بقي، وأنه الذي ضربت إليه أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها، لما شهر عنه من العلم، وذكر به من حسن الفقه. وهو ما رواه سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليضربن الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة[2]. "
قال القاضي عياض" هذا هو الصحيح عن سفيان رواه الثقات والأئمة، [وكان] يقول في تفسير الحديث إذا حدثهم به: هو مالك، أو أظنه، أو أحسبه، أو أراه، أو كانوا يُرَونه[3]. "ويعضد كل ذلك، قوله في انتهاء العلم في زمنه إليه: مالك عالم أهل الحجاز، وهو حجة زمانه[4]". "وقول ابن عيينة: كانوا يرونه مالك بن أنس حجة؛ لأنه إذا قال: كانوا يرون، إنما حكى عن التابعين[5].
وقال فيه الحافظ الذهبي الخبير بأحوال الرجال ومقاماتهم: لم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكا في العلم، والفقه، والجلالة، والحفظ، فقد كان بها بعد الصحابة مثل سعيد بن المسيب[6]، والفقهاء السبعة، والقاسم، وسالم، وعكرمة، ونافع، وطبقتهم، ثم زيدِ بن أسلم، وابنِ شهاب، وأبي الزناد، ويحيى بن سعيد، وصفوان بن سليم، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وطبقتِهم، فلما تفانوا، اشتهر ذكر مالك بها، وابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن الماجشون، وسليمان بن بلال، وفليح بن سليمان، والدراوردي، وأقرانُهم، فكان مالك هو المقدمَ فيهم على الإطلاق، والذي تضرب إليه آباط الإبل من الآفاق، رحمه الله تعالى[7].
"ومن اعتبر اعتراف الناس له أنه كان أعلم وقته وإمامه، وأعلم علماء المدينة وأعلم الناس، وتقليدهم إياه واقتداءهم به[8] ، [وكثرة من روى عن مالك من العلماء ممن تقدمه وعاصره أو تأخر عنه على اختلاف طبقاتهم وأقطارهم وكثرة الرحلة إليه والاعتماد في وقته عليه، دل بغير مرية أنه المراد بالحديث. إذ لم نجد لغيره من علماء المدينة ممن تقدمه أو جاء بعده من الرواة والآخذين إلا بعض من وجدناه… ويدل كثرة قصدهم له كونه أعلم أهل وقته وهو الحال والصفة التي أنذر بها عليه السلام لم يسترب السلف أنه هو المراد بالحديث، وَعُدَّ هذا الخبر من معجزاته وآياته عليه السلام[9].
2 - مكانة الموطأ بين مجموع مصنفي دواوين السنة السائرة، المطبوعة بخصيصة الأقربية من القرآن، وجمع لأصول شريعة الإسلام، وارتباطها القوي بشرف المكان ـ مدينة النبي صلى الله عليه وسلم مرجع الفضلاء ومحط رحال العلماء، حيث كان جبريل عليه السلام يروح ويغدو، بمرادات الله من المكلفين، ـ واختصاصها بقدر الزمان ـ المندرج في القرون الفاضلة بالمجموع ـ وقدر المشيخة ـ الوفية لوراثتها علما وعملا ـ وأبلغية الشرط في انتقاء عيون الأخبار، ـ المراعي للوثاقة اشتغالا وتنزيلا وتسننا وتخلقاـ ، وبَدَاعَة ـ سابقة في منهج الترتيب لتحصيل واجب التقريب ـ الجامع لحجج أركان الدين بشرط العمل الصحيح التي يُؤدى بها حق التكليف ـ، والمؤسس على اعتماد ما تحته عمل، الوفي لاحتياجات المكلفين في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والأخلاق…والتقيد بالعمل المدني النقلي أصل العلم المنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم إلى الخلفاء الراشدين وأهل الشورى في أيام حكمهم، والمترئسين من تلاميذهم الذين حظوا بشرف تزكيتهم، ونالوا قدر الاقتداء بهديهم، والتشبه بهم في سمتهم ودلهم، كما بين ذلك الحافظ الإمام أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي عندما سئل عن الرجل يحتقد ـ أي يقتصر ـ الأخذ فيما يرد عليه من المسائل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة: أذلك أنجى له عند الله عز وجل، أو أن يأخذ قول مالك وأصحابِه فيجمعه رواية ثم يقلد مالكا وأصحابه في كل ما جاء عنه؟ فأجاب في ذلك فقال: … اعلم أن مذهب مالك هذا الذي يعزوه إليه الناس ليس له منه إلا اليسير فيما اختاره مما اختلف فيه أهل المدينة، وسائره، هو القضاء المعمول به نقلا متواترا منذ زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عهد مالك وقربه من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم.
ولعمرُ الله إن أصحاب مالك رحمه الله لما علموا أن مالكا أهل ومقنع أن يقتدى به في العلم، اكتفوا بأن يقال مذهب مالك، وأتباع مالك، فإن التمست أرشدك الله أن تعتمد على الكتاب والسنة والإجماع، كنت أحوج الناس إلى مالك في ذلك، إذ ما يرويه فهو عند أهل الحديث القطبُ التي تدور عليه رحى الأحكام، وإن رغبت أن تعرف الإجماع والاختلاف، رأيت ذلك في كتاب الموطأ مصرحا عنه تارة، ومومى إليه أخرى، …فكيف يسوغ لمن هذه سبيله أن يفرق بينهم وبين كتاب الله وسنة نبيه وإجماع أمته؟…[10].
ولذلك قال الحافظ الذهبي: .. وإن للموطأ لوقعا في النفوس ومهابة في القلوب لا يوازنها شيء[11].
وقد وعت اللجنة المعينة لتنزيل الأمر المولوي بمعالمه الموجِّهَة مضمون الخطاب الملكي في هذا النطق التاريخي العالي، فأعدت العدة العلمية المناسبة لذلك مراعية الأسس الضامنة إخراج كتاب الموطأ إخراجا علميا صحيحا، يراعي صوى التحقيق المثلى التي وردت في التكليف المولوي الشريف، وقد دعا مقتضاها إلى ضرورة مراعاة جملة أمور:
1 - أداء حق هذا الأصل الأصيل الجامع لأشتات نشر الروايات، الملتزم بأصح معاني مخارج المرويات، والمبين لأداء القُرَبِ المفترضات، والطاعات المندوب إليها بالأحكام المشروعات، بالتفرغ بما يطيقه الدرع ويتحمله الوسع، ويقتضيه الفحص، ويتطلبه البحث، لتوفية هذه الوثيقة الفريدة حقها في التحقيق العلمي المتحقق ابتداء وانتهاء وإخراجا بالشرط الذي شرطه أمير المؤمنين حفظه الله القاضي بمراعاة الرواية المختارة في الغرب الإسلامي، رواية عاقل الأندلس وفقيهها يحيى بن يحيى الليثي المتوفى سنة 234هـ من طريق ابنه عبيد الله بن يحيى عنه، التي لا ينصرف الذهن إلا إليها عند ذكر الموطأ؛ أي موطأ على تعدد الروايات، وتباين الطرق إليها زيادة ونقصا، وهي معول المغاربة في الرواية، والتدريس، والشرح، وتفسير اللفظ الغريب. لا يرجعون إلى غيرها رغم أنهم تحملوها عن أصحابها بالسند المعتبر، كما هو بين في فهارسهم وأثباتهم وبرامجهم، ومشيخاتهم.
وقد عبر عن سر ذلك الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في قوله في التمهيد: "وإنما اعتمدت على رواية يحيى بن يحيى المذكورة خاصة، لموضعه عند أهل بلدنا من الثقة والدين والفضل والعلم والفهم، ولكثرة استعمالهم لروايته وراثة عن شيوخهم وعلمائهم…فكل قوم ينبغي لهم امتثال طريق سلفهم فيما سبق إليهم من الخير، وسلوك منهاجهم فيما احتملوا عليه من البر، وإن كان غيره مباحا مرغوبا فيه"[12].
وقوله في الاستذكار ردا على من أنكر رواية يحيى لقول أبي هريرة في وصف نار جهنم: لَهِيَ أَسْوَدُ مِنَ الْقَارِ[13]. وَالْقَارُ الزِّفْتُ. قال: «فيه قوله أسود من القار، وهي لغة مهجورة، واللغة الفصيحة أشد سوادا من القار، وأشد بياضا، وليس في هذا الباب مدخل للقول والنظر، وإنما فيه التسليم والوقوف عند التوقيف[14]».
2 - جمع ملاحظ الأئمة النقاد اللَّهِجيِن بالتعليل الذين اعتنوا بالتنصيص على مزالق الخطأ، ومواقع الغلط، وأنواع الخلط، واختلافات النقل في روايات يحيى بن يحيى الليثي المسندة إليه، المخالفة لمخارج الأثبات الذين لا يجوز خلافهم، مثل: أبي العباس الداني، وابن الحذاء، والقاضي عياض، وابن عبد البر، وأبي القاسم الجوهري... التي ساعدت على ضبط النص، وقراءته قراءة صحيحة، بعيدة عن التصحيح التخميني للنصوص، انكشفت به أنواع القراءات الخاطئة، والإثباتاتُ الزائغة، وأشكالُ الاختلافات في الحركات المائلة، وعباراتُ جمل الأبواب، ومراتبُ الكتب في الرواية، وقدرُ أحاديثها المختارة حججا في الدراية، وصورُ الإضافات المشوشة على خصوصية الرواية التي سكت عن تغييرها في الأصل المسموع جمهور المهتمين بشأن الإسناد أعصرا طويلة، حفاظا على بنية هذه الوثيقة الأصيلة، وإبقاءً على طبيعة خصوصيتها، التي تعرف بها وفاقا أو خلافا.
3 - تحديد مخطوطات الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي في الخزائن الحبسية المغربية، ثم الخزائن العالمية المفرقة في مثل تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان، وتاريخ التراث العربي لفؤاد سيزكين، والفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط، الذي أصدرته مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي بالمملكة الأردنية الهاشمية..
4 - تنزيل خطة التحقيق العلمية المرسومة القائمة على مقابلة النسخ، والتنصيص على الفروق في الحروف وألفاظ المتون، والاختلاف في ترتيب كتب الكتاب، وسياقات أبوابه، وأنواع التباينات في رسم لفظه، وضبط أوجه قراءة أسماء أعلامه وكناهم، وألقابهم، وأنسابهم، وبلدانهم، واختلاف حروف وألفاظ بعض النصوص في الروايات، والتحري في ضبط بنية اللفظ، وطريقة شكله كما جاءت في طرق الرواية المختلفة المعتمدة في المقابلة.
وقد احتفلت اللجنة المحقِّقَة غاية الاحتفال بما لعلمائنا المحصلين في الغرب الإسلامي من جهود سخية في خدمة هذه الرواية، التي يصرف الذهن إليها عند ذكر الموطأ لغة وفقها، وشرحا واستنباطا، متنا وإسنادا ، فجردت ما لهم من ذلك، وأدخلته في مواضعه من الكتاب، وهكذا حشدت جهودهم في خدمة اللغة والغريب والفقه والمتون والأسانيد والرجال، وقد تم هذا العمل باعتماد النسخ المغربية الموثقة الأصيلة التي توارد عليها فطاحل علمائنا، امتثالا لأمر أمير المؤمنين حفظه الله وتوجيهه السامي. وقد تأكد للجنة العلمية من خلال تنزيل النطق المولوي الكريم:
1 - أن النسخ المطبوعة يتخللها الزلل والخطأ، والحشو والإكمال الذي تردد في عزو الناس وقراءتهم دون اكتراث ولا تحقق، لأنها لم تراعَ فيها ضوابط التوثيق والتحقيق، وما تقتضيه سنة الرواية من التفتيش والتدقيق.
وقد عملت اللجنة العلمية بجد في هذا الباب، فتم لها بتوفيق الله تعالى تجريد ما في الطبعات السائرة من وهم وتصحيف وهوى وتحريف وتقديم وتأخير، فاجأ المهتمين وأيقظ المتبصرين الذين يبتغون الحفاظ على سنة التناقل الصحيح الموافق لهيأة الصدور.
2 ـ أصالة الأصول المغربية التي تحتفظ بها خزائننا والتي أشار إليها النطق السامي، وهي التي كانت معتمد اللجنة في المقابلة والتوثيق. وهي سبع نسخ، انتقيت بعناية من آلاف النسخ التي احتوتها الخزائن المغربية المختلفة بعد ما تم تشجير أنسابها، ومقارنةُ طرق الرواية المستقلة المنتهية بالسند المعتبر إليها.
وكان أولاها بالتقديم، وأجدَرها بالتقدير بين مئات النسخ المسجلة في قوائم فهارس الخزائن المغربية الجامعة لنفائس كتب التراث:
أ ـ نسخة أبي عبد الله بن الطلاع المتوفى سنة سبع وتسعين وأربع مائة (497هـ)[15]، الذي تفرد بعلو الإسناد، فألحق الأحفاد بالأجداد، وهي منتسخة في أوائل القرن السابع الهجري 613هـ. وهي أعلى النسخ مرتبة، وأوضحُها منهاجا، وأجمعُها للفوائد، وأحواها للمحامد. تمتاز بقوة الضبط وحسن المقابلة، ورسم المكتوب بالخط المغربي الواضح الجميل، الذي يشبه المجوهر لجماله وتناسب حروفه وتناسق سطوره، مع الشكل الكامل الموافق للرواية وما تقتضيه صناعة اللغة.
وأبو عبد الله ابن الطلاع كما هو معروف، يروي عن قاضي قرطبة يونس بن عبد الله الصفار، عن أبي عيسى يحيى بن عبد الله، عن عم أبيه أبي عيسى عبيد الله عن أبيه يحيى، وهذه النسخة من أدق النسخ المعروفة من الموطأ، إذ قوبلت وصححت على أصل المحدث الضابط المتقن أبي العباس أحمد بن سلمة الأنصاري المتوفى سنة 597هـ، من أصحاب ابن قُرْقُول، وابن بشكوال، وابن خير، وحسبك بهؤلاء في الرواية والضبط منزلة وشرفا.
وهذا الأصل الذي يحمل رقم: 708ج في المكتبة الوطنية، يمتاز بكثرة نقول، ووفرة طرر، ونفاسة حواشي، وقد تمكن أعضاء اللجنة بفضل الله من إدخالها كلها في أماكنها المناسبة، لأن أصلها الخطي، كان بأيديهم، فعانوا فك طلاسمها، وتم لهم ـ بفضل الله تعالى ـ ذلك.
ومما يزيد في نفاسة هذا الأصل، أنه كان في حوزة مُحَدِّثَيْن كبيرين من أعظم المحدثين بالغرب الإسلامي عبر أعصر الرواية، الأول: أبو عبد الله ابن رشيد السبتي، الذي وضع عليها خطه سنة 720هـ، والثاني: هو أبو عبد الله الوادي آشي، صاحب البرنامج المشهور والذي وضع خطه عليه سنة 728هـ.
ب ـ صورة من الأصل المستجلب من الزاوية الحمزاوية، والذي استقر أخيرا بتونس ـ نرجو أن يعود إلى الوطن في أقرب الآجال ـ، وهي من الأعلاق النفيسة ضبطا وإتقانا، انتسخت في صدر المائة الخامسة (487 هجرية). وقد أتيح لهذا الأصل أعلى درجات التوثيق والضبط، إذ تمت مقابلته على أصلين عظيمين:
ـ الأصل الأول، أصل أبي عمر المنتجيلي المتوفى سنة 350هـ، وهو ممن سمع على عبيد الله بن يحيى، عن أبيه يحيى بن يحيى الليثي، فليس بينه وبين يحيى إلا واسطة واحدة هي ابنه عبيد الله، وتمت هذه المقابلة سنة 487هـ.
ـ الأصل الثاني، أصل بخط قاضي الجماعة بقرطبة أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي عيسى عبيد الله بن يحيى، في أصله المسموع على عم أبيه أبي عيسى عبيد الله بن يحيى عن يحيى، وحواشيها غاية في النفاسة، وطررُها عظيمة المقدار.
ج ـ نسخة المحدث المقرئ الضابط اللغوي النحوي، أبي محمد شريح بن محمد بن شريح الرعيني المتوفى 539هـ، من أصحاب أبي محمد ابن حزم، ومن شيوخ ابن خير الإشبيلي، كتبها بخطه المغربي المليح لابنه محمد بن شريح، المتوفى سنة 567هـ، وتمت مقابلتها على يد أحد تلامذته، وهو المحدث الضابط المتقن أبو محمد ابن بَلِّيط، ممن اشتهر بالرواية والضبط والإتقان كما نص على ذلك ابن الأبار، وأبو عبد الله بن عبد الملك المراكشي.
وهذه النسخة بما توفر لها من الضبط والإتقان، تعد من الأعلاق الخطيرة، إذ امتلأت حواشيها وطررها بالإشارات لاختلاف الروايات والطرق، وعليها سماعات لمحققين كبار من رجالات الأندلس في القرن السادس، منصوص على علو كعبهم في الرواية والضبط والإتقان في الصلات الأندليسة.
هذه الأصول الثلاثة، كانت معتمد اللجنة في المقابلة والمعارضة، كما كانت كفيلة بحمد الله لإخراج نسخة صحيحة تحقق ظن أمير المؤمنين، وتستجيب لمقتضيات النطق السامي.
وقد استعانت اللجنة بأصول ثلاثة أخرى، كانت استعانتها بها ذاتَ جدوى على ما تستريب فيه من كلمات، وهي:
أ ـ نسخة كتبت سنة 595هـ، مقابلة ومصححة، زاخرة بالحواشي والطرر النفيسة، ورقمها: 787ج.
ب ـ نسخة أخرى بخط عبد الله بن أحمد بن محمد ابن اللباد، كتبت سنة 613هـ، لا تقل أهمية عن سابقاتها، لولا البتر الذي في أولها، وأواسطها، لكن حواشيها لا تخلو من أهمية ورقمها: 2911د.
ج ـ نسخة أخرى من عصر نسخة ابن اللباد السابقة، وفيها تقاييد مهمة جدا، ساعدت في الكشف عن أنواع الفروق في الحروف والألفاظ والأسماء، وضبط وشكل ما أشكل من عبارات المتون.
فَوُفِّقَت بفضل هذا الاختيار المؤسس على بصيرة وحسن نظر بالفن على النسخ المسندة المقروءة على جبال الحفظ في الغرب الإسلامي العزيز التي لا يعلو عليها فيما يُظَنُّ إسناد بعدها، لتقدمها وانتهاء السماع في إحداها إلى أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم المنتجيلي الذي يروي عن أبي مروان عبيد الله بن يحيى بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى عن مالك ـ رحمه الله ـ [16]. فيكون بينه وبين يحيى بن يحيى الليثي واسطة واحدة، وهذا غاية ما يرتجى في النسخ العلمية الأصيلة الواصلة بشرط التناقل الصحيح من العلو.
وفي الأخرى إلى الفقيه المشاوَر أبي عبد الله محمد بن فرج القرطبي المعروف بابن الطلاع المتوفى سنة سبع وتسعين وأربع مائة (497هـ)[17]، الذي تعد نسخته بإجماع المعتنين من أدق نسخ الموطأ وأضبطها، جعلت الناس يتنافسون في سماعها ويتواصون بتصحيح أصولهم عليها، ويصدرون عنها لمعرفة حقيقة سياق الروايات وقدر ألفاظها وصور رسم حروفها كما جاءت في الرواية عمن يتقون في أداء الحديث الباء والتاء.
يرويها بسند عال ليس بينه وبين عبيد الله إلا راويين. يؤديه عن أبي الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث يعرف بابن الصفار، عن أبي عيسى يحيى بن عبد الله، عن عم أبيه عبيد الله بن يحيى بن يحيى عن أبيه، عن مالك رضي الله عنه[18].
وبعد أن أنهت اللجنة عملها، وأيقنت باستجماعه شروط التحقيق العلمي المتناسب مع قدر الموطأ وعلو مكانته، عُرضَ العمل على مجموعة من العلماء المختصين ممن عرفوا بإتقان صنعة التحديث، وإجادة لوازم فن التحقيق الحديث، لإبداء ملاحظاتهم العلمية التي يمكن أن تكون فاتت اللجنة المكلفة.
وقد كانت لهذه المقابلة والتي تلتها للنشرة الثانية التي ستظهر قريبا بإذن الله تعالى تحت إشراف السيد الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى سيدي محمد يسف، فائدة عظمى في تدارك بعض الأخطاء المطبعية، وفي تقويم بعض التخريجات البيانية، واقتراح بعض التعريفات الضرورية التي يفرضها واجب تنظيف مثل هذا النص الأصيل لفظا ومعنى، وما يقتضيه واجب دفع الاشتباه إسنادا ومتنا.
[1] خطاب أمير المؤمنين خلال ترؤسه افتتاح الدورة الأولى لأعمال المجلس العلمي الأعلى بالقصر الملكي بفاس (08 يوليوز2005م).
[2] أبو الشيخ في الجزء الذي فيه أحاديث أبي الزبير عن غير جابر 167، والحاكم في المستدرك 1/68، والبيهقي في الكبرى 1/385، وقال: رواه الشافعي في القديم عن سفيان بن عيينة.
[3] ترتيب المدارك 1/71.
[4] ترتيب المدارك 1/71.
[5] التمهيد 6/35.
[6] الذي كان يقول: ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان ولا علي ـ رضوان الله عليهم ـ قضاء إلا وقد علمته. انظر رسالة للجاحظ في مدح التجارة وذم عمل السلطان ضمن رسائله 4/257.
[7] سير أعلام النبلاء 1/58.
[8] ترتيب المدارك 1/75.
[9] ترتيب المدارك 1/72.
[10] عيون الإمامة ونواظر السياسة 102 ـ 104.
[11] سير أعلام النبلاء 13/382.
[12] التمهيد 1/10.
[13] قال الوقشي في التعليق 2/393: «أجمع الرواة على قوله: «أسود» وإنما الوجه لهي أشد سوادا، ونظيره قول عمر: «فهو لما سواها أضيع، والقياس أشد إضاعة».
[14] الاستذكار 8/593.
[15] الصلة لابن بشكوال 535، وبغية الملتمس 123.
[16] فهرسة ابن خير 82، وبرنامج التجيبي 95.
[17] الصلة لابن بشكوال 535، وبغية الملتمس 123.
[18] انظر فهرس ابن عطية 68 والغنية 29.