السلام عليكم ورحمة الله، من يحق له الحكم على الحديث بالصحة والضعف؟ وهل يؤخذ بحكم المتأخرين والمعاصرين على الحديث؟
عليكم السلام ورحمة الله. الحكم على الحديث رواية ونسبة ومعنى لا يقوم به عند من مضى من الحفاظ المتمرسين، إلا من تحقق بصفات لابد له منها وهي في الجملة الاشتغال المحصي، والحفظ المستقصي والمعرفة التامة التحقيق، والفهم الواعي الدقيق؛ لأن الإصابة في كشف الرتبة المستحقة للرواية لا يوصل إليها بدونها، ولا تبلغ في غيابها، لخفاء بعض العلل فيها، وإيهام بعض الطرق السلامة منها. وقد جمع كل ذلك قول الإمام مالك رحمه الله: ..وهذا الشأن ـ يعني الحديث والفتيا ـ، يحتاج إلى رجل معه تقى وورع وصيانة وإتقان وعلم وفهم، فيعلم ما يخرج من رأسه وما يصل إليه غداً. فأما رجل بلا إتقان ولا معرفة فلا ينتفع به ولا هو حجة ولا يؤخذ عنه. وربما جلس إلينا الشيخ جل نهاره ما نأخذ عنه، ما بنا أن نتهمه ولكن لم يكن من أهل الحديث. ترتيب المدارك 1/155 وعزز هذا الشرط، الحافظ أبو عبد الله بن منده في قوله: إنما خص الله بمعرفة هذه الأخبار نفرا يسيرا من كثير ممن يدعي علم الحديث فأما سائر الناس من يدعي كثرة كتابة الحديث، .. فليس لهم أن يتكلموا في شيء من علم الحديث، إلا من أخذه عن أهله وأهل المعرفة به، فحينئذ يتكلم بمعرفته. شرح علل الترمذي 1/ 339 وقول الخطيب البغدادي: أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصرف ونقد الدنانير والدراهم فإنه لا يعرف جودة الدينار والدرهم بلون ولا مس ولا طراوة ولا دنس ولا نقش ولا صفة تعود إلى صغر أو كبر ولا إلى ضيق وسعة وإنما يعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف البهرج والزائف والخالص والمغشوش وكذلك تميز الحديث فإنه علم يخلقه الله تعالى في القـلوب بعد طول الممارسة له والاعتناء به.. فمن الأحاديث ما تخفى علته فلا يوقف عليها إلا بعد النظر الشديد ومضي الزمن البعيد. الجامع لأخلاق الراوي 2/255 ـ257 وما أروع قول الحافظ ابن حجر في سمات من يحق له الكلام في الحديث في القديم والحديث: فالسبيل إلى معرفة سلامة الحديث من العلة.. أن تجمع طرقه، فإن اتفقت رواته واستووا ظهرت سلامته، وإن اختلفوا أمكن ظهور العلة، فمدار التعليل في الحقيقة، على بيان الاختلاف ..ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهما غايصا واطلاعا حاويا وإدراكا لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة. النكت على كتاب ابن الصلاح 2/710. أما حكم المعاصر فلا يقبل إلا بمراعاة عدة أمور: أولها: أن يكون مشتغلا دهرا بصنعة الرواية حتى تكون معرفته الحديثية محيطة بمصادر الروايات المختلفة في مناهجها وحجومها؛ لأن هذه المعرفة هي الأصل في إنجاح الموازنة بين الروايات، والأساس في تعيين نوع المخالفة المحتملة في الأداءات. ثانيها: أن يكون عالما بشروط المعارضة وطرائقها، حتى يصح له الوصف الذي يستنتجه في الراوي والرواية قبولا أو ردا؛ لأن الجهل بها يفوت عليه الوقوف على المدار في الحديث أصل الفصل الإسنادي فيه، فيضيع بذلك الحكم الحق على مخرج الحديث. ثالثها: أن يكون متيقظا متثبتا منتبها حتى لا يفوته قول من قال فيه ممن تقدم من الأئمة المعللين أو المحققين المخرجين، فيقول باجتهاده المجتزئ في الحديث قولا قد يشذ به عن الجميع، فَيُصَيِّر الحق باطلا والباطل حقا. رابعها: أن يكون منصفا مبتغيا باقتدائه بالأئمة واستحضار أحكامهم تحقيق الحق في الحكم على الحديث، الذي يرعى فيه أصالة حقيقة نسبة الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة معناه التي تحكمه الأصول والقواعد، حتى لا يقوي ضعيفا، أو يضعف قويا تقوم على وصفه الرواية. خامسها: أن يبرئ أحكامه من فتنة إجراء الوصف المختصر المقول في الراوي قبولا وردا، على كل أحاديثه التي تنتهي مسندة إليه، خشية فوت لحاظ الاستثناءات في رواياته التي لا يدل عليها المعنى المفهوم من الوصف وثاقة وضعفا؛ لأنه عساه أن يحل الحرام أو يحرم الحلال كما قال إمام الصنعة أبو حاتم ا ابن حبان. سادسها: أن يتأكد من صحة الأصول التي يعزو إليها، وألا يُسلم لكل سفر مطبوع منها، لما قد يتخلله من التصحيف أو يصيبه من التحريف؛ وأن يعرف مخارج رواياتها، ويستحضر أنواع الاختلاف الحاصل بينها، تقديما وتأخيرا زيادة ونقصا؛ وأن يحسن اصطفاء المَخْرَج الصحيح منها. سابعها: أن يراعي حقيقة سياق اللفظ كما هو في الأصل عند التخريج، ويربطه بمصدره بعد تبينه، حتى لا يخلط في نسبته إلى من خرجه كما يقع لبعض المعاصرين عند عوز اللفظ للأصول إذ يعزوه إلى من خرجه لحاظا للمخرج المتحد، دون أن ينتبه لتفاوت السياقات، أو يتفطن لاختلاف ألفاظ المرويات. ثامنها: عدم التعجل بالتضعيف لحاظا للوصف العام، ونسيان حق الشاهد قسيم المتابع الذي لا يصح الإعراض عنه عند الحكم على الحديث. وقد ألمع إلى قدر هذا الحق في الغلبة على سياق الأخبار الإمام عبد الحق الإشبيلي في قوله: وقد أخرجت في هذا الكتاب أحاديث قليلة من كتاب، وتركتها في كتاب أشهر من الكتاب الذي أخرجتها منه، ثم نبهت على كونها في ذلك الكتاب المشهور، وإنما فعلت ذلك لزيادة في الحديث، أو لبيانه أو لكماله وحسن سياقه، أو لقوة سند في ذلك الحديث على غيره، ومنها ما فعلته نسيانًا ونبهت على الكل، وقد يكون حديثًا بإسناد صحيح، وله إسناد آخر أنزل منه في الصحة، لكن يكون لفظ الإسناد النازل أحسن مساقًا أو أبين، فآخذه لما فيه من البيان وحسن المساق، إذ المعنى واحد، وإذ هو صحيح من أجل الإسناد الآخر، أو يكون حديث تعضده آية ظاهرة البيان من كتاب الله تعالى، فإنه وإن كان معتلًا أكتبه؛ لأن معه ما يقويه ويذهب علته. الأحكام الوسطى 1/ 70. تاسعها: ضرورة مراعاة أصول الرد الحاكمة على المتون، والموارد التي تراعى عند رفض المخالف من ألفاظ النقول، وأحقها بالإعمال: أ : رد الرواية لمخالفة مضمونها واجب التنزيه الواجب في حق الله تعالى؛ ب: رد الرواية لمخالفتها القرآن الكريم؛ ج: رد الرواية لمخالفتها ما يجب في حق الأنبياء من التعظيم والتوقير؛ د: رد الرواية لمخالفتها للسنة المتفق على صحة ثبوتها، والمتسالم على ضرورة الاحتجاج بها؛ هـ: رد الرواية لمخالفتها للعمل المدني النقلي المنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم نصا أو استدلالا؛ و: رد الرواية لمخالفتها للعقل الصريح الذي لا يختلف على مقرراته الأسوياء. ز: رد الرواية لمخالفتها للمتيقن من أحداث التاريخ التي صح مسار تناقلها، واعتبر صواب مضمونها.
البحث