تمتاز الختمات بتبريز العالم أو الشيخ في فنه، وبما يحاط به مجلس الختم من أهمية وتقدير، بحضور العلماء والكبار إلى جانب الطلبة، وجرت العادة أنه قلما يتصدى للختم إلا المبرزون والنبغاء وكبار العلماء، كل ذلك يجعل الختمة بمثابة أطروحة أو عرض يقدمه الشيخ أمام العلماء والشيوخ من أقرانه ومنافسيه، بما تمتاز به من إملاآت واجتهادات وعروض شيقة في الفن المختوم.
ومن ذلك نجد أن الشيح الحافظ أبا العباس أحمد ابن علي الزموري، عندما انتهى من دروسه في تفسير الإمام الرازي، عقد مجلسا حافلا للختم، ووجهت رقاع الدعوة إلى عدد من كبار قادة البلاد، وفي مقدمتهم الأمير الشيخ ولي عهد السلطان المنصور السعدي، وكان من بين من حضر يوم الختم إلى جانبه عدد كبير من شيوخ العلماء وكبارهم كالإمام يحيى السراج والقاضي الحميدي وغيرهما. وقد كان موضوع الختم الذي اختاره الشيخ تفسير الآية الكريمة: ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾ حيث ذكر في مجلسه ثلاثة وعشرين تاويلا في تفسيرها(1).
وعندما ينتهي الشيخ من ختمه يقوم الشعراء بإلقاء قصائدهم، تمجيدا للشيخ والثناء على عمله وذكر صفاته وتبريزه في الفن المختوم، كما يحمل عند نهاية المجلس على الأعناق والكواهل من طرف طلبته ومحبيه على بيته، في مهرجان وإكبار، حيث يحتفل به رجال المدينة والعلماء ويقدم الحليب والتمر، وتقام المآدب والإكرام، وقد تقدم إلى الشيخ بعض الهدايا والصلاة ممن طرف الملوك والأمراء(2).
تعدد مناسبات الختم
تتعدد مناسبة الختم حسب الظروف، فإذا كان الغالب أنها تكون بمناسبة إنهاء العالم دراسة فن من الفنون أو كتاب من الكتب، كما هو الشائع عند الانتهاء من دراسة الموطأ أو الكتب الستة أو الآجرومية أو الألفية وغيرها كما سنرى فيما بعد، فإن الختم أيضا يكون في مناسبات أخرى عندما يتهيأ الجيش للخروج للجهاد وهو ختام القراءة، كما حصل عندما كان يستعد الجيش المغربي بقيادة الملك السعدي للخروج إلى جهاد البرتغال وقتالهم في معركة "وادي المخازن" قبل أربعة قرون، إذ ختمت سلك القرآن مائة ختمة، وكذا ختم صحيح الإمام البخاري كما نص على ذلك المؤرخان اليفرني وصاحب الاستقصا وغيرهما(3). كما كان الختم يقع بمناسبة تشييد قصر ملكي، كما حصل أيام السلطان الحسن الأول عندما أمر بأن يدشن قصر الرباط بمجلس ختم صحيح الإمام البخاري(4).
والمشهور المعروف في المغرب أن أكثر الختمات كانت تتعلق بصحيح البخاري؛ لشدة اهتمام المغاربة وعنايتهم بالصحيح خاصة، فإن الختمات لم تكن مقصورة على علم بعينه، أو فن خاص، بل كانت تشمل أغلب العلوم والفنون، فقد كانت هذه العادة جارية معروفة في المغرب، إذ يعقد العلماء والدارسون مجالس للختم إثر انتهائهم من تدريس مختلف العلوم، ذلك أننا نجد ختمات كثيرة في الحديث والنحو والفقه والتفسير وغيرها من العلوم والفنون، وختمته لجامع الترمذي بالقرويين(5) أملاهما سنة 1328 هـ، وختمة الشيخ المكيلدي لمختصر خليل بفاس(6)، وختم السيدة زوج المختار الكنتي للمختصر الخليلي إثر الانتهاء من تدريسه للنساء في اليوم الذي ختمه زوجها بجهة أخرى(7)، وختمة سيدي محمد بن جعفر الكتاني لصحيح مسلم، وختمه للموطأ(8)، وختمة "الآجرومية" للشيخ عبد القادر بن سودة المسماة "فتح القيوم في ختمة مقدمة ابن آجروم" وهي مطبوعة(9)، وختم "المرشد المعين" لعبد الواحد بن عاشر(10)، وختمة الآجرومية لسيد أحمد بن جعفر الكتاني المسمات "النفحات الوردية الندية لمريد ختم المقدمة الآجرومية"(11)، وختمة الألفية لخليل بن صالح الخالدي التلمساني المطبوعة بفاس(12)، وختمة على الرسالة لابن مغيرة أحمد المكناسي الرباطي(13)، وختمة للشمائل لابن عزوز محمد المفضل بن الهادي بن أحمد(14)، وختم الموطأ للشيخ البطاوري(15)، وخاتمة الفيروزآبادي في الأحاديث المشتهرة(16)، وختم المواهب اللدنية للشيخ عبد الكبير الكتاني(17)، وختم مسند أبي داود المسمى "تحفة الودود في ختم مسند أبي داود" للشيخ محمد مرتضى الزبيدي(18).
تميز المحدثين المغاربة بختمات البخاري
هذا فن من فنون الحديث ولون ظريف من ألوان التأليف فيه، يكاد يتميز به المحدثون المغاربة على الخصوص، فإذا كانت الختمات عرفت في العالم الإسلامي كله بالنسبة لسائر العلوم الأخرى، فإن ختمات البخاري لم تشتهر كما اشتهرت بالمغرب كمظهر فريد ومتين، يدل على مدى العناية الفائقة والأهمية الكبيرة التي أولاها المغاربة لصحيح الإمام البخاري.
هذا ولا يعرف لختمات البخاري تاريخ معين، لأنها فن من فنون الحديث لم يؤلف فيه ولم يؤرخ له، خاصة وأن أكثر الختمات لم تكن مكتوبة ولا مدونة، وإنما كانت تعقد مجالس الختم عندما ينهي الشيخ دراسة الصحيح ويلقي ختمته ويبرز فيها ويحتفل بها، ولكن أحدا لا يسجل شيئا عنها، خاصة أو وسائل الإعلام ووسائل التسجيل كانت قليلة، وذلك ما يقف في وجه الدارس والمؤرخ عندما يبحث عن أقدم الختمات، أو عن أول ختمة للبخاري ليمكنه التأريخ لهذا الفن تأريخا علميا، وهو ما أحاول في هذا البحث الوصول إليه إذ لم يسبقني أحد – فيما أعلم – للتعريف بالختمات عامة وختمات البخاري خاصة.
كذلك لا يعرف أول من بدأ هذا اللون من الحديث، حتى يمكن ذكره في صف الرواد من أصحاب ختمات الختمات، ولذلك يعود الاعتبار والتقدير إلى أول ختمة موجودة لدينا حسب حياة صاحبها وتاريخ إلقائها وتحريرها، في انتظار الكشف عن ختمات أخرى فيما بعد بحول الله، وهذا ما يجعلنا نحجم عن الجزم بأحكام قاطعة في الموضوع مما يجعل الباب مفتوحا أمام الأجيال المقبلة من الباحثين.
إن ختمات البخاري لم تكن مشهورة لدى المشارقة، ولم تكن سنة مألوفة كما هو الشأن عندنا بالمغرب، وخاصة بالنسبة للجامع الصحيح حيث جرت العادة الحميدة أن يعقد الشيوخ والمحدثون مجالس ختمية، عند الانتهاء من سرد الصحيح أو تدرسيه وإقرائه وشرحه، يكون موضوع المجلس شرح آخر حديث من أحاديث الصحيح، يقدم لموضوعه بمدخل يذكر فيه أهمية العلوم الشرعية وفي مقدمتها الكتاب والسنة، وقد يؤرخ لتدوينها، ثم يتحدث عن صاحب ترجمته وحياته، ويعرف بالجامع الصحيح وكيفية تأليفه، ويتحدث عن مناسبة الحديث من الجامع، وعن سنده ومتنه شرحا مستفيضا، ثم يتخلص إلى ذكر مروياته وسنده الفريد أو المتعدد للجامع الصحيح، وقد يختم المجلس بنوادر وأدعية وأشعار.
ويشبه صنيع المغاربة في مجلس الختمات، بمجالس الإملاء الحديثية التي عرفها الشرق، وبرز فيها المحدثون، وعقدوا لها أبوابا في كتب المصطلح وأدروه في آداب المحدث كما هو الشأن في تدريب الراوي للسيوطي.
غير أن المشارقة لم يكونوا يتقيدون في مجالس الإملاء بكتاب خاص، كما هو شأن المغاربة في ختمات البخاري، إذ يعقد المحدث مجلسا يملي فيه بعض مروياته من حفظه، ثم يختم المجلس بحكايات وأشعار ونوادر ونكت نناسب المقام، ومن أشهر أصحاب مجالس الإملاء عند المشارقة نذكر الحافظ ابن حجر(19) الذي أملى أكثر من ألف مجلس، وقبل شيخه الحافظ العراقي ت 762 هـ الذي أملى أكثر من 4000 مجلس، وزين الدين بن عبد الرحيم الحسني العراقي المصري(20) وبعده ولي الدين أبو الفضل أحمد بن عبد الرحيم العراقي المتوفى سنة 828 هـ الذي أملى أكثر من ستمائة مجلس(21)، والحافظ السيوطي أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ت 919 هـ الذي عقد أكثر من مائة مجلس(22) ثم الحافظ شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمان السخاوي ت 902 هـ الذي بلغت مجالسه أكثر من ستمائة مجلس كما ذكر هو نفسه(23) والحافظ ابن الصلاح الذي سار على سننن شيوخه في ذلك.
وقد جمعت أمالي المحدثين في كتب عرفت "بكتب الأمالي والاملاء" إذ كان من وظائف العلماء قديما خصوصا الحفاظ أهل الحديث، في يوم من أيام الأسبوع يوم الثلاثاء أو يوم الجمعة، وهو المستحب أن يكون في المسجد لشرفهما، وطريقهم فيه أن يكتب المستملى في أول القائمة:
هذا مجلس أملاه شيخنا فلان بجامع كذا في يوم كذا، يذكر التاريخ ثم يورد المملي بأسانيده أحاديث وآثارا، ثم يفسر غريبها ويورد من الفوائد المتعلقة بها بإسناد أو بدونه ما يختاره ويتيسر له، وقد كان هذا في الصدر الأول فاشيا كثيرا، ثم ماتت الحفاظ وقل الإملاء، وقد شرع الحافظ السيوطي في الإملاء بمصر سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، وجدده بعد انقطاعه عشرين سنة من سنة مات الحافظ ابن حجر على ما قاله في المزهر وكتبه كثيرة(24).
وأول ما نعرف من الختمات ما جاء في"فتح الباري" لابن الباري، أنه ختم البخاري واحتفل بذلك فيكون أقدم من نعلم – إلى الآن – ممن ختم البخاري هو الحافظ ابن حجر المتوفى سنة 752 هـ ولا نعرف أن ختمته هذه دونت وكتبت. غير أن أول ختمة مدونة ومطبوعة نعرفها وتوجد بين أيدينا، هي ختمة الإمام القسطلاني شارح البخاري والمسماة "تحفة السامع والقارئ بختم صحيح البخاري" عثرت عليها مخطوطة بالخزانة الملكية تحت رقم 1173(25)، كما نجد في ترجمة الحافظ أبي الخير السخاوي أن له عدة ختمات: إحداهما في صحيح البخاري سماها "عمدة القارئ والسامع في ختم الصحيح الجامع"(26) وله غيرها حول صحيح مسلم والشفا للقاضي عياض(27).
ختم القراءة وختم الإقراء
ختم القراءة: ويقصد به ختم سرده وإسماعه وهذا كثير يكاد لا يخلو منه مسجد أو مركز ثقافي، حيث يتعبد الناس، بسماع الصحيح وإسماعه دائما وخاصة في الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان من كل عام، وكما هو جار إلى الآن بالضريح الإدريسي بزرهون منذ سن قراءته القاضي محمد إدريس العلوي، وما زالت تختم قراءته في محفل كبير عصر السادس والعشرين من رمضان من كل سنة بمحضر العلماء وممثلي السلطة وعامة الناس، وتنقل الإذاعة حفل الختم في كل سنة، وقد دأبت على مشاركة العلماء في هذا المجلس منذ رجعت من الشرق لأكثر من عشر سنوات وما زالت إلى الآن.
ونذكر من هذا النوع وهو كثير بعض العلماء الذين اشتهروا بقراءة الصحيح والمداومة على إسماعه وإقرائه مثل الشيخ جعفر الكتاني الذي ختمه ما بين سماع وإسماع بالزاوية الكتانية بفاس أكثر من عشرين مرة(28)، والشيخ عبد الكبير الكتاني الذي ذكر ولده الشيخ عبد الحق الكتاني أنه ختمه خمسين مرة ما بين سماع وإسماع وإقراء، وما ذكره ابن الآبار في تكملته ممن أن ابن عطية ختم البخاري وحده سبعمائة مرة.
والنوع الثاني ختم الإقراء: وهو عبارة عن المجلس الحافل الذي يعقده العالم أو الشيخ، بمناسبة انتهاء دراسته مع طلبته وإقرائه للجامع الصحيح، قراءة استيعاب وتمحيص ودراية، ولذلك يتهيأ لمجلس الختم ويجتهد في الإعداد له، لما يحاط به من هالة ولما يحضره من علماء وشيوخ، فيكون مناسبة لتبريز المحدث وإظهار علمه وتفننه وإطلاعه، وهذا النوع الثاني هو المقصود بالختمات من بحثنا، ومثل هذه الختمات العلمية هي التي كتبت ودونت، وبقيت علامة واضحة في تاريخ الفكر المغربي، وشاهدا ودليلا قويا على مدى عناية المغاربة وتفانيهم في الاهتمام بالجامع الصحيح.
ونجد من عيون هذه الختمات العلمية المدونة أقدمها وأروعها، ختمة الشيخ عبد القادر الكوهن في القرن قبل الماضي، وسنقوم بتقديم دراسة موجزة عنها كنموذج مغربي لختمات البخاري(29)، وختمة الشيخ محمد بن سودة، وختمة الشيخ جعفر بن إدريس الكتاني، وختمة الشيخ العربي بن السائح، وختمات تلميذه أحمد بنموسى السلاوي، وختمة الشيخ محمد بن جعفر الكاني وغيرها.
على أن أروع ختمات البخاري وأرفعها نفسا وأشهرها ذكرا، هي ختمة جدنا الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني المطبوعة بفاس(30) والتي أملاها بجامع القرويين من الغلس إلى الزوال، في محفل مشهور ضاقت به رحاب القرويين وتحدث عنها الخاص والعام، والتي أظهرت نبوغه وعبقريته.
مناسبات الختم
إذا كانت الختمات العلمية لصحيح البخاري، هي المقصودة بالذات وهي اللون المسجل والمدون من أنواع الختمات، فإن مناسبات الختم كثيرة ومتعددة نذكر منها: الختم الذي يحصل بمناسبة خروج الجيش للجهاد وحرب العدو، كما حصل عندما كان الجيش المغربي يستعد بمراكش للخروج لمقابلة البرتغال في معركة وادي المخازن بقيادة السلطان السعدي، كما سجل المؤرخون ذلك وأثبتوه.
فعندما عقد المنصور السعدي الراية للجيش في طريقه إلى وادي المخازن وسط جامع المنصور بمراكش، ختم عليها أهل الله حملة القرآن مائة ختمة، وصحيح البخاري، وصحبوا ذلك بالتهليل والتكبير، والصلاة والسلام على البشير النذير، والدعاء بالنصر والتمكين(31).
كما كان يختم صحيح البخاري، بمناسبة تدشين القصور والمساجد والمدارس، فقد أقام السلطان الحسن الأول عندما تم بناء قصره بالرباط، حفلا تدشينا عقد في القصر نفسه، وختم فيه الصحيح ختمة علمية حضرها الأمراء ورجال الدولة وكبار الشيوخ والعلماء(32).
وعادة الختم هذه دأب عليها سلاطيننا وملوكنا منذ عرف المغرب الجامع الصحيح وخاصة على عهد الدولة السعدية في أيام المنصور السعدي، الذي كانت سيرته في شهر رمضان المواظبة على سماع الصحيح وحضور مجالس إقرائه بين يديه، وعقد مجلس حافل لختمه، وقد تحدث عن هذا المجلس صاحب "الاستقصا" بقوله(33): "وهكذا كانت سيرته في شهر رمضان عند ختم صحيح البخاري، وذلك لأنه كان إذا دخل رمضان سرد القاضي وأعيان الفقهاء كل يوم سفرا من نسخة البخاري، وهي عندهم مجزأة على خمسة وثلاثين سفرا في كل يوم سفر إلا يوم العيد وتاليه، فإذا كان يوم سابع العيد ختم فيه صحيح البخاري وتهيأ له السلطان أحسن تهيء، وكانت العادة الجارية عندهم في ذلك، أن القاضي يتولى السرد بنفسه فيسرد نحو الورقتين من أول السفر ويتفاوض بعض الحاضرين في النساء، ويلقي من ظهر له بحث أو توجيه ما ظهر له، ولا يزالون في المذاكرة، فإذا تعالى النهار ختم المجلس وذهب القاضي بالسفر فيكمله سردا في بيته، ومن الغد يبتدئ سفرا آخرا، هكذا والسلطان في جميع ذلك جالس قريب من حاشية الحلقة قد عين لجلوسه موضع".
هذا وقد اكتسى حفل ختم صحيح البخاري بزاوية الدلائيين، طابع الموسم، حيت تشد إليه الرحال من كل مكان، ويطعم فيه الطعام على طريقة الدلاء الحاتمية، ويلقي الشيخ محمد بن أبي بكر الدلائي درسا في نصف يوم كامل يشهده علماء من فاس ومراكش وغيرهما، ويتلوه إنشاد القصائد في مدح البخاري وكتابه، والإشادة بشيخ الدلاء وسعة علمه، ولم يكن الشيخ محمد بناصر الدرعي يتخلف في رمضان عن قراءة صحيح البخاري وختمه بزاوية "تامكروت" في نهاية العهد السعدي(34).
كما كان السلطان محمد الخامس كثيرا ما يعقد مجالس لختم كتب الحديث وخاصة الجامع الصحيح، الذي يبتدئ قراءته بمحضره خلال ثلاثة أشهر من كل سنة، ابتداء من رجب إلى رمضان الذي يعقد فيه مجلس الختم بحضور علماء المملكة وكبارها وأعيانها(35).
وما زالت العناية بالصحيح قائمة ومجالسه دائمة مستمرة، فقد داوم الملك الحسن الثاني على مجالس الحديث، وخاصة في رمضان كما جرت العادة على اختتام تلك المجالس بختم الصحيح، قراءة آخر أحاديث الصحيح سندا ومتنا مع دعوات وابتهالات، وقد داوم على القيام بذلك إلى الآن أستاذنا الشيخ الرحالي الفاروق حفظه الله.
وما زالت مجالس البخاري قائمة بمولاي إدريس زرهون، حيث تستمر قراءته طوال الأشهر الثلاثة: رجب وشعبان ورمضان صباح كل يوم، ويختم عصر اليوم السادس والعشرين من رمضان في محفل كبير ومشهد عظيم، بحضرة العلماء والشرفاء ورجال السلطة وجمهور كبير من أنحاء المغرب، حيث يقوم جماعة من العلماء بإسماع الأحاديث من الجامع الصحيح قدر الساعة من الزمان، ثم يختم إما الضريح الإدريسي عادة بقراءة الحديث الأخير من الصحيح ودعوات وابتهالات.
وقد كان لي شرف ختم الجامع الصحيح بالقبة الحبسية بالضريح الإدريسي الأكبر في ليلة القدر من سنة 1396/1976، حيث أمليت ختمة علمية في مشهد عظيم، تناولت فيها الكلام على الحديث الأخير من البخاري، مترجما لرجال سنده وشارحا لمتنه، وقد قامت الإذاعة بنقل الختمة المذكورة مباشرة في حينها، وبذلك أكون قد ساهمت في إحياء هذه السنة الحميدة والعادة الكريمة، كذلك مازال البخاري يقرأ ويختم إلى الآن في الزاوية الناصرية "بتامكروت" حيث يقرأ في نسخة ثلاثينية منها جزء كل يوم، ثم يقع ختمه في آخر شهر رمضان في حفل مشهود، كما يقرأ ويختم في زاويتنا الكتانية الشهيرة يوم الموسم من كل عام.
وما زال أهل زاوية "ابن السبع" يداومون على قراءة صحيح البخاري وختمه وخاصة في شهر رمضان.
ونذكر من المدن التي تحافظ على سنة إسماع البخاري وقراءته مدينة مكناس، حيث تفتتح قراءة البخاري في عدة أماكن في شهر رمضان، سواء بالمسجد الأعظم الذي تبتدئ قراءته في مستهل رمضان ويختم في مشهد كبير بعد زوال السادس والعشرين من رمضان، كما يقرأ في نفس الشهر وبنفس الاهتمام بالزاوية الكتانية وبالزاوية العلمية والزاوية الكنتية وغيرها (36).
إنعام وهدايا بمناسبة الختم
أشرنا فيما سبق إلى أنه يحتفى بالخاتم عند نهاية ختمته، حيث تلقى في المجلس قصيدة أو قصائد للتنويه به وبالفن المختوم، كما يحتفى به حيث يحمل على الكواهل والأكتاف في موكب ضخم إلى داره، وتقدم الأطعمة إلى المحتفلين، وقد تقدم إليه بعض الهدايا والصلات.
من ذلك ما نجده مسجلا في فهرس الوثائق، من أنه كانت تمنح صلات لأصحاب الختمات تكريما لهم وتشجيعا، إذ نجد أنه صدر أمر تنفيذ صلة بمناسبة ختم الصحيحين(37).
كما نجد أمرا آخر بتنفيذ صلة بمناسبة ختم صحيح البخاري(38)، وصدر أيضا إنعام بمناسبة ختم صحيح البخاري (39)، وتنفيذ بمناسبة ختم صحيح البخاري أيضا(40).
دعوات الختم
لقد جرت العادة أن ينهي الخاتم مجلس الختام بدعوات وابتهالات مشهورة وصلوات على النبي الكريم، مستمدة من الحديث الشريف، ومن آثار العلماء والصالحين، وقد يكون الاختتام بقصيدة شعرية في الكمالات المحمدية، كما فعل الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني عند نهاية ختمته، مع ملاحظة اختلاف أسلوب دعوات الختم حسب زمان الختم ووقته وتبعا لمشرب الخاتم ونفسه.
وقد تجمع لدينا من مجموع ختمات البخاري المغربية دعوات وابتهالات وصلوات على الرسول الأعظم، نذكر من أحسن ما قيل منها عند الختم:
الحمد لله ما وجد بآخر نسخة من صحيح البخاري بخط الشيخ سيدي عبد القادر الفاسي، ومن خطه أيضا يعني أبا عمران بن سعادة رضي الله عنه، قرئ على الفقيه أبي الوليد سليمان بن خلف رضي الله عنه، والفقيه أبو علي رضي الله عنه يسمع قال، قال أبو ذر: سمعت أبا الهيثم يدعو بهذا الدعاء عند فراغه من قراءة كتاب البخاري:
"الحمد لله حمد معترف بذنبه، ومستأنس بربه، جعل فاقته إليه، واعتمد في العفو عليه..ذنوبه تقلقه، روح قلبه بذكره، وطاش عقله من جرمه، لا يوجد في أحواله إلى قلقا، وطائر القلب فرقا، وخوفا من النار وفضيحة العار، وغضب الملك الجبار، إذا ميز الأخيار والأشرار، وجيء بالجنة والنار، وبدلت الأرض وانشقت السماوات، وتناثرت النجوم الزاهرات، وانتظر المحشورون ماذا يكون في ذلك اليوم، يوم وأي يوم، يوم يفزع من هوله المحسنون، ويغرق في بحاره المسيئون، في يوم تلاحقت أوجاله، وترادفت أهواله، ونادى المنادي: باسمك ندعى إلى الحساب، وإلى قراءة ما حصلته في ذلك الكتاب، وتقام بين يديه عاصيا، وتقدم إليه خاطيا، فإما مغفور لك، فصرت إلى الجنة مسرورا، وإما مسخوط عليك، فصرت إلى النار مأسورا، نعوذ بالله من النار ونسأله البعد منها، فإنك ملك كريم، جواد رحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما"(41).
ومن ذلك ما أنهى به الشيخ عبد القادر الكوهن ختمته المشهورة "نوافح الورد" بقوله: ومن أحسن الأدعية وأجمعها لخير الدارين وأرجاها للإجازة، خاتمة دعاء الفرج الذي رواه جعفر الصادق رضي الله عنه عن أسلافه الكرام مرفوعا وهو: اللهم إني أسألك إيمانا دائما الخ..روى الترمذي والحاكم في نوادر الأصول بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتاه جبريل عليه السلام بينما هو عنده إذ أقبل أبو ذر فنظر إليه جبريل فقال أبو ذر قال فقلت يا أمين الله وتعرفون أنتم أبا ذر قال نعم والذي بعثك بالحق بشيرا ونذيرا، أن أبا ذر أعرف في السماء منه في الأرض، إنما ذلاك دعاء يدعو به كل يوم مرتين تعجبت الملائكة منه فادعه وسله عن دعائه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر دعاء تدعو به كل يوم مرتين، قال نعم فداك أبي وأمي ما سمعته من بشر، وإنما هو عشرة أحرف ألهمني بها ربي إلهاما، وأنا أدعو به كل يوم مرتين أستقبل القبلة فأسبح الله مليا،وأحمده مليا، وأهلله مليا، وأكبره مليا، ثم أدعو بتلك العشر الكلمات: اللهم إني أسألك إيمانا دائما، وأسألك دينا قيما، وأسألك العافية، وأسألك دوام العافية، وأسألك الشكر على العافية، وأسألك الغنى عن الناس، قال جبريل: يا محمد والذي بعثك بالحق لا يدعو أحد من أمتك بهذا الدعاء إلا غفرت له ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر وعدد تراب الأرض، ولا يتوفى أحد من أمتك وفي قلبه هذا الدعاء إلا اشتاقت إليه الجنان، واستغفر له الملكان، وفتحت له أبواب الجنة فنادت الملائكة: يا ولي الله ادخل من أي باب شئت(42).
وقد ورد في ختم المجلس أحاديث كثيرة، وأخبار شهيرة، فعن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جلس مجلسا كثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك"، وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أراد أن يقوم من المجلس: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفركم وأتوب إليك"، فقال رجل: يا رسول الله إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى، فقال: "كفارة لما يكون في المجلس". وعن عائشة رضي الله عنهما قالت: ما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا ولاتلا قرآنا ولا صلى صلاة إلا ختم ذلك بكلمات، فقلت يا رسول الله: أراك ما تجلس مجلسا ولا تتلو قرآنا ولا تصلي صلاة إلا ختمت بتلك الكلمات، قال: "نعم، من قال خيرا كان طابعا له على ذلك الخير، ومن قال شرا كانت كفارة له، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك". وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، فقالها في مجلس ذكر، كان كالطابع يطبع عليه ومن قالها في مجلس لغو كان كفارة له".
بعض الختمات المشهورة
ختمة صحيح البخاري(43) المسمات إظهار نفائس ادخاري المهيآت لختم كتاب البخاري أبو العباس أحمد بن قاسم ساسي البوني المتوفى سنة 1139هـ.
ختمة البخاري(44) أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمان الفاسي المتوفى سنة 1144هـ.
ختمة صحيح البخاري(45) المسماة "ترجمة الورد والعنبر والمسك الداري لشرح آخر ترجمة صحيح البخاري". للشيخ عبد القادر الكوهن البوني المتوفى سنة 1254هـ.
ختمة البخاري(46) محمد بن حمدون بن الحاج المتوفى سنة 1274هـ.
ختمة البخاري(52) أحمد بن موسى السلوي المتوفى سنة 1328هـ.
ختمة أخرى له(53) لنفس المؤلف المذكور.
ختمة البخاري(54) التهامي بن المدني كنون المتوفى سنة 1331هـ.
ختم الصحيح(55) للشيخ عبد الكبير الكتاني.
شرح ختم صحيح البخاري(56) محمد بن جعفر الكتاني المتوفى سنة 1345هـ.
ختمة البخاري(57) محمد المكي البطاوري المتوفى سنة 1355هـ.
ختمة البخاري(58) محمد المدني بن الحسني المتوفى سنة 1378هـ.
ختمة البخاري(59) للشيخ الرحالي الفاروق.
ختمة صحيح البخاري المسماة عون الباري على فهم آخر تراجم.
صحيح البخاري(47). أحمد بن الطالب بن سودة المتوفى سنة 1321هـ/ 1905م.
ختمة صحيح البخاري المسماة شرح آخر ترجمة من صحيح.
الإمام البخاري(48). الشيخ جعفر بن إدريس الكتاني المتوفى سنة 1323هـ.
ختمة صحيح البخاري(49) للشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني المتوفى سنة 1327هـ.
ختمة أخرى له(50) للشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني المتوفى سنة 1327هـ.
ختمة البخاري(51) للشيخ العربي بن السائح المتوفى سنة 1309هـ/1892م.
ـــــــــــــــــــــــــــ
1) جامع القرويين 2/431 – الدكتور عبد الهادي التازي.
2) الإتحاف ج 2 – عبد الرحمان بن زيدان.
3) نزهة الحادي ص: 63.
4) المغرب في عهد الدولة السعدية ص: 105. مدرسة الإمام البخاري في المغرب، الدكتور يوسف الكتاني 2/601 و 602.
5) المصدر السابق نفس الصفحة.
6) فهرس الفهارس 1/420.
7) النبوغ 1/281 و 282.
8) معجم المحدثين ص: 30.
9) الموسوعة المغربية ع 2 ص: 13.
10) توجد بالخزانة العامة تحت رقم 1820د.
11) الموسوعة المغربية ع 1 ص: 6.
12) الموسوعة المغربية ع 2 ص: 101.
13) الموسوعة المغربية ع 2 ص: 83.
14) الموسوعة المغربية ع 2 ص: 6.
15) معجم المحدثين ص: 37.
16) فهرس الفهارس 2/270.
17) فهرس الفهارس 2/141.
18) فهرس الفهارس 1/408 – وانظر تفصيل الموضوع بكتابنا مدرسة الإمام البخاري في المغرب 2/600-650..
19) الدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر للسخاوي 2/336.
20) فهرس الفهارس 2/436 نقلا عن تدريب الراوي وفتح المغيث.
21) فهرس الفهارس 2/436.
22) التدريب ص: 176- فهرس الفهارس 2/352.
23) فهرس الفهارس 2/335-373.
24) الرسالة المستطرفة ص: 159.
25) وتوجد بمكتبتي مصورة عنها منها نقلت هذه المعلومات.
26) فهرس الفهارس 2/335.
27) المصدر السابق 2/336.
28) المصدر السابق 1/132.
29) توجد مصورة عنها بمكتبتي عن الأصل المحفوظ بالخزانة الملكية.
30) جميع هذه الختمات توجد نسخ منها إما أصلية أو مصورة بمكتبتي.
31) نزهة الحادي لليفرني ص 65. المغرب في عهد الدولة السعدية ص: 105.
32) انظر تفصيل ذلك في كتابنا مدرسة الإمام البخاري في المغرب 2- 609 و 610.
33) الاستقصا 5/153-154.
34) الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين 1/115.
35) جامع القرويين 2/467.
36) العز والصولة 1/177-178.
37) فهرس الوثائق لجائزة الحسن الثاني للمخطوطات والوثائق ص: 77 ص: 34.
38) المصدر السابق ص: 36.
39) صدر السابق ص: 37.
40) صدر السابق ص: 37.
41) منقول عن نسخة خطبة من صحيح البخاري بالخزانة الملكية ص: 451.
42) ختمة الكوهن ص: 127-128.
43) فهرس الفهارس 1/169.
44) توجد بالخزانة العلمية الصبيحية بسلا.
45) توجد بالخزانة الملكية تحت رقم 892د.
46) توجد بالخزانة الملكية تحت رقم 173.
47) مطبوعة بفاس وتوجد مصورتها بخزانتي.
48) مطبوعة بفاس.
49) مطبوعة بفاس بالمطبعة الجديدة سنة 1323هـ.
50) مخطوطة المظاهر السامية.
51) مخطوطة إلا أنها مبتورة توجد مصورتها بمكتبتي.
52) مخطوطة توجد نسخة منها بمكتبتي هدية من ولد المؤلف الفقيه المقرئ عبد الرحمن بنموسي.
53) توجد بالخزانة الملكية.
54) الشرف المصون لآل كنون ص: 28.
55) فهرس الفهارس.
56) الرسالة المستطرفة مقدمة الناشر حرف (أ),
57) شخصيات مغربية (3) ص: 98 عبد الله الجراري.
58) شخصيات مغربية (2) ص: 92 عبد الله الجراري.
59) ختمة مختصرة نشرت بكاملها لأول مرة في كتابها مدرسة الإمام البخاري في المغرب 2/643-659.
يوسف الكتاني، مجلة دعوة لحق - العدد 240 ذو الحجة 1404هـ/ سبتمبر 1984م.