بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
س: ما هي أهم الضوابط التي وضعها المحدثون في نقل الإخبار؟
ج: معلوم أن شريعتنا تنبني على النصوص، وهذه النصوص أصلها الوحي سواء كان قرآنا أو سنة. القرآن وحي لفظا ومعنى، والسنة النبوية وحي بالمعنى، ألفاظها نبوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هذا الذي صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينحصر فقط في تلكم الحقبة والزمن الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وخاصة في المرحلة المكية والمدنية. هذا الذي صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم تناقلته الأجيال لاحقا عن سابق، هذا التناقل كان مقيدا بقيود ومنضبطا بضوابط.
- فالناقل لهذا الذي يضاف للنبي صلى الله عليه وسلم يسمى مخبرا.
- والنص الذي يأتي به ناقلا إياه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن غيره من الصحابة يسمى خبرا.
- والخبر أنواع، وينظر له من عدة جهات:
1- ينظر له من جهة عدد نقلته، نتحدث هنا عن المتواتر، والمشهور، والعزيز، والفرد والغريب، والآحاد.
2- ينظر إليه من جهة منتهاه: إلى من ينتهي هذا الخبر، إن انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو المرفوع، وإذا انتهى إلى الصحابي كأن يقول الصحابي كذا وكذا سمي موقوفا، وإذا انتهى الخبر إلى التابعي سمي الخبر مقطوعا.
فكأن المحدثين ينظرون إلى تحفة أثرية. ينظرون إليها من عدة زوايا، ومن كل زاوية يصفونها ويدققون في وصفها، ويطلقون على هذه الأوصاف الألفاظ الاصطلاحية المناسبة، فتارة يكون الحديث مرفوعا، وتارة يكون الحديث عاليا، وتارة يكون الحديث نازلا، وتارة يكون الحديث مرسلا، وهكذا.. أوصاف بحسب الزاوية التي ينظر منها إلى الخبر الذي ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
اشترط المحدثون من باب الحرص على ضمان سلامة النقل: سلامته من الخطإ، سلامته من العوارض البشرية؛ -لأن الذين ينقلون الخبر هم بشر- راوي الحديث في نهاية المطاف هو بشر قد يكون ذكرا قد يكون أنثى، قد يكون كبيرا قد يكون صغيرا، قد يكون عبدا، قد تكون أمة، أشكال وأجناس وأنواع من البشر كلهم كانوا داخلين في مسمى رواة الحديث، نقلة الأخبار. هذا الإنسان الراوي للخبر بمجرد تلبسه بهذه الوظيفة الرفيعة، وهذا العمل الشرعي الجسيم، يصبح مقيدا بقيود. فالإنسان المسلم العاقل البالغ الذي يمارس نشاط الرواية يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ويبلغ أحاديثه، تشترط فيه شروط لضمان سلامة هذا النقل، ويشرف بشرف هذا النقل، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأولئك الذين يهتمون برواية أحاديثه بقوله: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه، فرب مُبَلَّغٍ أوعى من سامع"[1].
دعوة بنضارة الوجه، فالمحدثون على مر التاريخ معروفون بنضارة الوجه. وجوههم مشرقة في وجوههم نور، نور حديث النبوة الذي يبلغونه للناس، لقد لحقتهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
الضوابط التي وضعها المحدثون لسلامة النقل:
أما الضوابط فيمكن أن ننظر لها من خلال ركيزتين أساسيتين:
الركيزة الأولى العدالة: أن يكون الراوي عدلا، معنى كونه عدلا: أن تستقيم عقيدة الراوي فلا يكون مبتدعا، وأن يستقيم قوله فلا يقول إلا صوابا، وأن يستقيم عمله فلا يصدر عنه إلا ما كان موافقا للشرع.
الركيزة الثانية الضبط: وهو الإتقان: إتقان ما يروى من التحمل إلى الأداء.
العدالة مراتب: عدالة الصحابة ليست كعدالة التابعين، وعدالة التابعين ليست كعدالة أتباع التابعين وهكذا.
والضبط مراتب ودرجات؛ فضبط قوم من الرواة الذين وصلوا إلى أعلى درجات الضبط والإتقان معروفون وهم رجال البخاري.
س: بم نعرف أن هذا الراوي بلغ أعلى مراتب الضبط، وراو آخر متوسط الضبط، وثالث خفيف الضبط أو كثير الخطإ؟
ج: يعرف باختبار الراوي، وبالمقارنة بين راو متقن ضابط وراو يراد اختبار ضبطه، وهذا كله عن طريق السؤال ومجالس المذاكرة والامتحان، وأيضا بالتتبع وطول الملازمة، وهذا يحيلنا إلى ما ذكر عن بلوغ رجال البخاري أعلى درجات الضبط وما يسمى بشرط البخاري، فالعلماء الذين حرروا شرط البخاري قالوا إن الإمام البخاري رضي الله عنه كان يروي عن شيوخ طالت ملازمتهم لشيوخهم. فطول الملازمة هو مظنة الإتقان، فالضبط له عدة معان حتى قال المحدثون الضبط ضبطان: ضبط صدر، وضبط سطر، أي أن يضبط بحفظه، أو يضبط بكتابه.
س: هذا العلو في الضبط والخفة في الضبط هل ينتج منه أنواع في الأحاديث أيضا؟
ج: تنتج منه ثمرة مهمة جدا، وهي تصنيف الرواة بحسب درجات ضبطهم: رواة يعتبرون في مقام عال من الضبط وهم رجال البخاري، ورجال أقل ضبطا من هذا الطبقة وهم رجال مسلم، وكلما انحدرنا من الأعلى إلى الأدنى كلما خف الضبط وخفت الملازمة وخف الشرط، فثمرة هذا هو تصنيف صحة المصادر الحديثية فالبخاري ومسلم جعلوا في المقدمة لهذه الحيثية.
س: حتى من ناحية الفرق بين الحديث الصحيح والحديث الحسن مثلا؟
ج: نعم من جهة الضبط؛ لأن رجال الحسن أقل ضبطا من رجال الصحيح.
أسئلة المشاهدين:
س: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. هل هذا حديث صحيح أم لا؟ وما معناه؟
ج: هذا الحديث من أصح الصحيح أي من المتفق عليه خرجه الإمام البخاري[2] والإمام مسلم[3] وغيرهما، ومعنى اجتنبوا السبع الموبقات، الموبقات هي: المهلكات التي تهلك الإنسان، وقد ورد هذا اللفظ في كلام ربنا سبحانه وتعالى في سورة الشورى: ﵟوَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلۡجَوَارِ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ ٣٢ إِن يَشَأۡ يُسۡكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظۡلَلۡنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٍ ٣٣ أَوۡ يُوبِقۡهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعۡفُ عَن كَثِيرٖ ٣٤ ﵞ [الشورى: 32-34]. فربنا سبحانه وتعالى صور الجواري أي السفن تجري في البحر بإذنه وبتسخيره وتيسيره، فإذا أراد أن يهلك من على السفينة بذنوبهم يوبقهم أي: يهلكهم بما كسبوا، ثم قال سبحانه: ويعف عن كثير، فالإيباق: الإهلاك، وهذه السبع المذكورة في الحديث كلها من الكبائر المهلكة: الشرك بالله مهلك، قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق مهلكة تدخل صاحبها النار، مخلد في النار، أكل الربا من أكبر الكبائر، أكل مال اليتيم ظلما وعدوانا، التولي يوم الزحف أي الهروب من الجهاد الذي دعا إليه الإمام الأكبر، قذف المحصنات وما أكثر ما يقع في هذا الزمان، فالقذف هو أن ترمي المرأة المتزوجة بتهمة تخدش في عرضها، كما وقع لأمنا عائشة في حادثة الإفك المشهورة، ﵟإِنَّ ٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡغَٰفِلَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٢٣ ﵞ [النور: 23]. وصفهن بالغافلات لأنهن لا يكترثن إلى كلام الناس. والناس يخوضون في أعراضهن، وهذا الخوض يعتبر من المهلكات الموبقات التي هي من أكبر الكبائر.
س: هل الموبقات محصورة في هذه السبعة؟
ج: لا. هناك روايات أخرى أضافت موبقات أخرى، ومنها: الزنا وعقوق الوالدين والسحر...فإذا جمعنا ألفاظ الأحاديث التي تحدثت عن الموبقات أو عن الكبائر نجد أربعين كبيرة أو سبعين كبيرة أو أكثر بحسب ما أحصاه المحدثون في جمع هذه التي تسمى بالكبائر، وهناك مؤلفات في الموضوع[4]، فقط هذه الرواية حصرت الموبقات في هذه السبع، وهي من أشنع المعاصي أعاذنا الله وإياكم منها.
س: ذكر في الحديث أكل مال اليتيم، هل إذا تصرف في مال اليتيم بغير أكل يعد كبيرة؟
ج: عبر بالأكل هنا موافقة للتعبير للقرآني: ﵟوَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ ﵞ [البقرة: 188].
الذي يأكل يختص بملك ذلك الشيء لا ينازعه فيه أحد بخلاف القبض، إذا قلت لا تقبض مال اليتيم ولا تتصرف فيه قد ينازعك فيه أحد، أما إذا أكلته فلا تبقى لك منازعة، فأكل مال اليتيم هنا له ملحظ بلاغي.
فاليتيم قاصر على التصرف في ماله يحتاج من يوكله للتصرف في ماله، وهذا الوكيل ينبغي أن يكون صادقا أمينا مستقيما عدلا.
س: حديث سيأتيكم أقوام يطلبون العلم فإذا رأيتموهم فقولوا لهم مرحبا مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقنوهم، هل هذا الحديث صحيح؟ وما معناه؟
ج: هذا الحديث رواه الإمام ابن ماجه[5]، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يوصينا بطلبة العلم، وهو من الحديث الحسن، وغالب ما في ابن ماجه من نوع الحسن، وبعضه صحيح، وبعضه ضعيف.
س: إذا تحدثنا عن السبب الذي أنزله من الصحة إلى الحسن؟
ج: إسناده؛ لأن مدار التمييز بين الصحة والضعف هو خفة الضبط، وينطر لها في الراوي. لكن لا يضر، لأن هذا الحديث معمول به ومتداول ومشهور، وهو أصل في وجوب الإحسان إلى طلبة العلم. وهذا في الحقيقة منوط بالعلماء والمعلمين والشيوخ وكل أولئك الذين يقصدون التعلم، فكل عالم قصده طالب علم ينبغي أن يكرمه، وأن يساعده، وأن ييسر أمره، وأن يكون به رحيما ليكون قد امتثل لهذه الوصية. ويستلزم هذا أيضا تقدير طالب العلم للعلماء والشيوخ، فالأمر متبادل بين طالب العلم والشيخ الذي يعلم، وقد جمع كل هذا الإمام الحجة الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.
وهذه الوصية أيضا موجهة لعموم الأمة؛ لأن بعض العلماء لما توسعوا في مصارف الزكاة ووصلوا إلى سهم "وفي سبيل الله" أدخلوا فيها -في بعض الاختيارات الفقهية-طلبة العلم الذين لا يجدون ما ينفقون، ويلتمس فيهم القدرة على التعلم وبالتالي سيصبح نافعا للأمة فهذا ينبغي أن ينفق عليهم من مال الزكاة وهو خطاب موجه للأمة أن تخصص من زكاتها حظا ونصيبا يوجه لطبة العلم المعوزين.
س: ما ذا عن صحة حديث: كل عين زانية؟ وكيف للعين أن تصل إلى درجة الزنا؟
ج: هذا طرف من حديث رواه الإمام الترمذي وتمام الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل عين زانية، وكل امرأة استعطرت فهي كذا وكذا"، قال الراوي أي زانية"[6].
فهذا الحديث من نوع المقبول الذي يعمل به في الأحكام. والمقصود الأحكام التي تستمد وتستخلص من الأحاديث، وهذه الأحاديث إما أن تكون صحيحة بنوعها، أو تكون حسنة، أو تكون ضعيفة ضعفا منجبرا.
حينما نقول هذا حديث مقبول: أي أنه مستوف لشروط العمل به، ليس فيه علة ولا قادح ولا عيب يحط به عن درجة الاعتبار والاستدلال، من ضمنها هذا الحديث، فهو من أحاديث الترهيب والتخويف من استعمال جارحة البصر فيما لا يجوز، فكل مكلف أو مكلفة نظرت إلى محرم عليها من ذكر أو أنثى نظرة شهوة فتلك النظرة عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم -من باب التحذير والتغليظ-بالزنا، والزنا الوارد هنا ضرب من المجاز.
فالمكلف مأمور أن يحفظ عينه وسمعه وبصره وجوارحه ولا يستعملها إلا في طاعة.
ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري وغيره، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قال: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته.»[7]
الشاهد أن العبد إذا أكثر من الطاعات وأكثر من التقرب إلى مولاه، ووصل مقاما كبيرا في التقرب بالطاعة فإن الله تعالى يحفظ عليه سمعه لا يسمع إلا حلالا، ويحفظ عليه بصره لا يرى إلا مباحا، ويحفظ عليه رجله فلا تمشي إلا في مباح، وهذا كله إذا صدر من العبد على أنه يمشي في طريق الله، ﵟوَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚﵞ [العنكبوت: 69]. فلابد من المجاهدة.
وهذا الحديث يشهد له قوله تعالى: ﵟقُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ﵞ [النور: 30].
س: يذهب بعض من يتناول هذا الحديث ويطعن فيه، يقول إنه حديث لا يصح بحجة أن مداره على شخص واحد وهو أبو موسى الأشعري وليس له شاهد آخر، هل إذا كان الحديث يدور على شخص واحد وإن كان صحابيا جليلا نقول فيه مثل هذا الكلام؟
ج: أبدا؛ لأن المدار في الأحاديث على الآحاد. الحديث الصحيح الذي بلغ أعلى درجات الصحة مدارها على الآحاد، وأشهر حديث الذي هو ربع الدين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)[8] تفرد به سيدنا عمر، فهذه شبهة باطلة وتنم عن جهل عميق بقواعد التحديث؛ لأن الحديث الصحيح لا يشترط فيه أن يرويه جمع من الصحابة ويرويه عنهم جمع من التابعين وهكذا؛ الحديث الصحيح هو حديث الآحاد أو الفرد، فالتفرد لا يضر ما دام المتفرد عدلا ضابطا فإذا كان صحابيا لا يضره تفرده.
س: حديث مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين. ما هي معاني هذا الحديث ودرجته وتخريجه؟
ج: هذا الحديث رواه الإمام البخاري[9] وهو صحيح بلا شك، وهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم يجسد فيه للناس، لأصحابه أولا، وللأمة الإسلامية لاحقا عن سابق مقام النبي صلى الله عليه وسلم مقارنة بالأنبياء والرسل السابقين، هؤلاء الأنبياء والرسل السابقون في علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بهم كمثل رجل بنى بناء جميلا أنيقا مزخرفا وترك في البناء موضع لبنة، فكل زائر لهذا البناء يعجب لجماله ويتساءل لماذا لم يتم الباني تلك اللبنة؟ فتلك اللبنة هي رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أتم الله تعالى بها الرسالات السماوية، فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم الأنبياء، فهذا مثل والأمثال سلوك تربوي قويم وأساسي في الخطاب القرآني وفي الخطاب النبوي.
س: يشير الحديث أيضا إلى اتحاد الأصول في الشرائع؟
ج: نعم، كل التشريعات السماوية أصلها واحد وهو الله سبحانه وتعالى، ولكن تفريعاتها مختلفة[10]. فالتشريع اليهودي ليس هو التشريع النصراني، والتشريع النصراني ليس هو التشريع الإسلامي. أما التشريع الإسلامي فهو مصدق لما قبله ومهيمن عليه، هكذا وصف الله تعالى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم[11]، وعندما وضعت هذه اللبنة يشير ذلك إلى جمال وكمال هذا الدين، ﵟٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚﵞ [المائدة: 3]، الكمال والتمام والنهاية التي لا يتصور أن يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم رجل يدعي أنه نبي يتم الرسالة، أو يتم دين الله سبحانه وتعالى.
س: ما معنى حديث: ما من شيء أثقل في الميزان عند الله من حسن الخلق؟ وما مدى صحته؟
ج: هذا الحديث رواه الإمام الترمذي في الجامع،[12] وهو من نوع المقبول الذي يعمل به والذي يستدل به على مكانة من أحسن أو حسّن خلقه للناس، وتمام الحديث: يصل بحسن خلق درجة الصائم القائم. أي من كان مع الناس يجتهد في ألا يريهم من نفسه إلا ما حسن من أخلاق، وما كان لم يكن حسنا فليجتهد في ستره عن الناس وإخفائه. ألا يتلفظ للناس إلا بما يريحهم، قال ربنا سبحانه وتعالى: ﵟوَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا ﵞ [البقرة: 83]. فمن اجتهد ألا يري للناس من نفسه إلا ما حسن فهذا يبلغ بعمله هذا درجة المصلي والمزكي، ودرجة الصائم والقائم. فهذا فيه حث وترغيب للناس بأن يحسنوا أخلاقهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
س: قد يدعي كل أن خلقه من أحسن ما يكون. مرجع هذا فضيلة الأستاذ؟
ج: مرجع ذلك ما تعارف الناس عليه؛ "لا تجتمع أمتي على ضلالة".[13] لا يمكن أن يقال فلان سيء الأخلاق، وتجتمع أسرته وجيرانه، ويجتمع من حوله من الناس على أنه سيء الأخلاق وهو يدعي أنه حسن الأخلاق، هذه دعوى مردودة، "فألسنة الخلق هي أقلام الحق"[14]، فمدار كل هذا إجماع الناس على حسن خلق فلان، وعلى سوء خلق فلان،[15] وهنا يحسن بنا أن نتفقه في قول ربنا سبحانه وتعالى: ﵟأَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنٗاۖﵞ [فاطر: 8].
س: ذكرتم كثيرا الترمذي فضيلة الأستاذ وكل هذه الأحاديث التي مرت علينا قلتم أنها مقبولة يعمل بها. هل جل ما في هذا الكتاب من هذا النوع من الصحيح؟
ج: طبعا جامع الترمذي يعتبر عند العلماء من مصادر الحديث الحسن،[16] والذي يعجب الدارس والمتتبع لهذا الكتاب أن المصنف رحمه الله كان إذا فرغ من رواية الحديث يقول: هذا حديث حسن، هذا حديث صحيح، هذا حديث حسن صحيح، هذا حديث صحيح حسن غريب، يصفه بأوصاف نقدية تعين على معرفة الوصف، فغالب أحوال الأحاديث التي يرويها الإمام الترمذي يتبعها بهذا الوصف وهذا يؤكد ما قلناه في بداية الدرس أن الحديث ينظر إليه من عدة زوايا، فهو صحيح من وجه حسن من وجه وغريب من وجه آخر.
س: حديث: من بلغ الستين فقد أعذر[17] هل الحديث عند البخاري فضيلة الأستاذ؟
ج: هو عند البخاري بلفظ آخر، لكن للأسف هنا هو أن الأحاديث تتداول بصيغ وألفاظ تخالف ما في الأصل، فرواية الحديث بالمعنى لها شروط، في بعض الأحيان الذي يروي بالمعنى يحرف المعنى، يحرف الكلم عن مواضعه. فالأولى لمن كانت بضاعته في الحديث يسيرة ولسانه العربي محدود أن يجتهدوا في أخذ الحديث من مصدره، ويحافظوا على لفظه.
س: ما هو اللفظ الذي في البخاري؟
ج: " أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة"،[18] وهو حديث صحيح، ومعناه أن الله تعالى لما خلقك أيها الإنسان وأنشأك وأعطاك سمعا وبصرا وصحة وقدرة وكمال جسم وأطال في عمرك حتى بلغك ستين سنة فلم يبق لك عذرا في ألا تكون له عبدا مطيعا، فلا عذر لك أيها المكلف حين بلغت الستين وما زلت في معاصيك وذنوبك.
س: هل من كان دون الستين معذور؟
ج: الستين هي مقاربة، ومن قارب الشيء يعطى حكمه، فمن بلغ الأربعين أو الخمسين، ويوشك أن يبلغ الستين، كل هؤلاء مخاطبون بأن يراجعوا أنفسهم. ويحاسبوا أنفسهم، "حاسبوا أنفسكم قبل أن يحاسبكم الملك الديان".[19]
س: هل يشير إلى أن من استكمل الستين فذلك مظنة لانتهاء الأجل؟
ج: لأنه في الحديث المروي في الموطأ أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته؛[20] لأن غالب أمته يموتون في الستين من عمرهم،[21] وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبلغ من العمر ثلاثا وستين سنة.[22]
س: هل آجال أمتي بين الستين والسبعين حديث؟
ج: نعم هذا حديث،[23] ويؤكد هذا يعني أن سن الستين هو سن الحد الفاصل بين زمن ولى وزمن يستقبل، فمن بلغ الستين فإنه يطل على الآخرة، يطل على لقاء الله تعالى، يطل على قبره، فليتق الله تعالى فيما بقي.
س: وهذا الامتداد في العمر نعمة من نعم الله؟
ج: نعم "وخير الناس من طال عمره وحسن عمله".[24]
س: ما مدى صحة حديث: الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة؟ وما المقصود بالمتاع؟
ج: هذا الحديث رواه الإمام مسلم،[25] وله شواهد، ومنها: أن من رزقه الله تعالى الزوجة الصالحة فقد استكمل شرط دينه فليتق الله في الشطر الباقي، فمن متعه الله ورزقه زوجة صالحة فإنها تعينه على دينه تصونه وتحصنه، ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار، جمهور المفسرين أن حسنات الدنيا هي المرأة الصالحة.[26]
والمقصود بالمتاع: متاع الدنيا من مأكل ومشرب ومركب وما إلى ذلك، وجعلت المرأة متاعا لأن الزوج هو الذي يطلبها ويدفع لها صداقا ويحرص عليها، فكأنه يلحقها به لتكون له حصنا وسندا، وتكون له ما تكون مما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم، فزوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المومنين كن له خير سند في مختلف مراحل حياته صلى الله عليه وسلم، فمن رزقه الله تعالى المرأة الصالحة فليعتبرها من الله تعالى رزقا ويعتبرها منحة، يشكره عليها ويحسن إليها.
س: من يحدد الصلاح وبماذا يحدد؟
ج: قال ربنا سبحانه وتعالى: ﵟوَٱللَّهُ يَعۡلَمُ ٱلۡمُفۡسِدَ مِنَ ٱلۡمُصۡلِحِۚﵞ [البقرة: 220]. والصلاح والإصلاح بين الناس وصلاح أحوالهم يعرف بضوابط، فلا يكتفي أن يدعي مدع أنه صالح، لابد أن يسلم أصحاب الحجا، أصحاب العقول على صلاحه ويشهدوا له بذلك،..
بارك الله فيكم ونفع بكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
مع فضيلة الأستاذ إدريس الخرشافي.
الحواشي:
[1] صحيح ابن حبان عن عبد الله بن مسعود: ذكر إثبات نضارة الوجه في القيامة من بلغ عن المصطفى صلى الله عليه وسلم سنة صحيحة، كما سمعها. ص:552/1.
[2] صحيح البخاري، عن أبي هريرة: كتاب الوصايا. باب قول الله تعالى {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا}. وكتاب الحدود وما يحذر من الحدود. باب رمي المحصنات.
[3] صحيح مسلم، عن أبي هريرة: كتاب الإيمان. باب بيان الكبائر وأكبرها. رقم الحديث 145.
[4] مثل: الزيادات على كتاب الكبائر للبرديجي للمقدسي، وكتاب الكبائر للذهبي. والزواجر عن اقتراف الكبائر لأبي العباس الهيتمي.
[5] اللفظ المذكور في السؤال لابن ماجه في سننه، عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري: أبواب السنة. باب الوصاة بطلبة العلم. وأخرجه الترمذي في جامعه: أبواب العلم. باب ما جاء في الاستيصاء بمن يطلب العلم. ولفظه: عن أبي هارون العبدي، قال: كنا نأتي أبا سعيد، فيقول: مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس لكم تبع، وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرضين يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا. وقال عقبه: قال علي: قال يحيى بن سعيد: كان شعبة يضعف أبا هارون العبدي قال يحيى بن سعيد: ما زال ابن عون يروي عن أبي هارون العبدي حتى مات وأبو هارون اسمه: عمارة بن جوين. وحسن إسناده المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير: 62/2.
[6] رواه الترمذي في جامعه عن أبي موسى الأشعري مرفوعا: أبواب الأدب. باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة. وقال عقبه: هذا حديث حسن صحيح.
[7] صحيح البخاري: كتاب الرقائق. باب التواضع.
[8] صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي. باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الله جل ذكره {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده}.
[9] رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة: كتاب المناقب. باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
[10] يشير إلى قوله تعالى: ﵟلِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ ﵞ [المائدة: 48]
[11] يشير إلى قوله تعالى: ﵟوَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ ﵞ [المائدة: 48]
[12] رواه الترمذي في جامعه عن أبي الدرداء: أبواب البر والصلة. باب ما جاء في حسن الخلق. وقال عقبه حديث غريب، وصححه في رواية أخرى بلفظ: ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء.
[13] قال ابن حجر في موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر: هو حديث مشهور المتن، له أسانيد كثيره من رواية جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة.
فقد أخرجه أحمد من حديث أبي بَصْرَهَ الغفاري، وأبو داود من حديث أبي مالك الأشعري، والترمذي من حديث عبد اللَّه بن عمر، وابن ماجة من حديث أنس، والحاكم من حديث ابن عباس وغيره. 105/1.
[14] هو من كلام بعض الصوفية، ويمكن أن يكون معناه: الفال الموكل بالمنطق. المقاصد الحسنة للسخاوي: ص: 152.
[15] يشير إلى ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك مرفوعا في حديث طويل: هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض.»
[16] قال الحافظ ابن الصلاح في مقدمته: كتاب أبي عيسى الترمذي رحمه الله أصل في معرفة الحديث الحسن وهو الذى نوه باسمه، وأكثر من ذكره في جامعه... ونص الدارقطني في سننه على كثير من ذلك. ومن مظانه سنن أبي داود السجستاني رحمه الله تعالى. ص: 36.
[17] هو ترجمة لباب في كتاب الرقاق من صحيح البخاري: باب: من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، لقوله {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير}.
[18] صحيح البخاري: كتاب الرقاق: باب: من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير}.
[19] هو أثر موقوف عن عمر بن الخطاب، رواه ابن المبارك في الزهد: باب الهرب من الخطايا والذنوب. وأبو عبيد القاسم بن سلام في الخطب والمواعظ: مواعظ عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس: ص:22. وغيرهم، بلفظ: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [الحاقة: 18] ". وهذا لفظ أبي الدنيا، وذكره الترمذي في جامعه معلقا.
[20] يشير إلى حديث: مالك، أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أري أعمار الناس قبله. أو ما شاء الله من ذلك. فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل، مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، خير من ألف شهر». الموطأ: كتاب الاعتكاف: باب ما جاء في ليلة القدر.
[21] يشير إلى حديث: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك»، رواه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه عن أبي هريرة مرفوعا، وقال: هذا حديث حسن غريب.
[22] عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين». رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وفي الصحيح أيضا عن أنس وابن عباس ومعاوية ابن أبي سفيان مثله. كتاب الفضائل في صحيح مسلم: باب كم سن النبي صلى الله عليه وسلم يوم قبض.
[23] رواه الترمذي وابن ماجه في سننيهما وغيرهما بلفظ: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك»: وقال الترمذي عقبه: هذا حديث حسن غريب. وقد سبق. ولم أقف بلفظ: آجال أمتي..
[24] هو حديث مشهور، رواه الترمذي وغيره عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه، «أن رجلا» قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: من طال عمره وحسن عمله قال: فأي الناس شر؟ قال: من طال عمره وساء عمله". وقال عقبه: هذا حديث حسن صحيح. ورواه أيضا عن عبد الله بن بسر، وقال: وفي الباب عن أبي هريرة، وجابر: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه». أبواب الزهد: باب ما جاء في طول العمر للمؤمن.
[25] رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص: كتاب الرضاع. باب: خير متاع الدنيا المرأة الصالحة. وابن ماجه في سننه بلفظ: «إنما الدنيا متاع، وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة». كتاب النكاح: باب أفضل النساء. ورواه النسائي أيضا في سننه في كتاب النكاح: باب المرأة الصالحة.
[26] روى ابن أبي حاتم في تفسيره، عن محمد بن كعب القرظي، في هذه الآية: ربنا آتنا في الدنيا حسنة قال: المرأة الصالحة من الحسنات. وروي عن يزيد بن مالك، نحو ذلك. سورة البقرة الآية: 201.