مقدمة
تناول الأستاذ الفاضل موضوع مداخلته المعنونة بـ "نحو منهج متكامل لحسن فهم السنة" من خلال بيان الهدف الأسمى الذي بعث من أجله المصطفى ﷺ ألا وهو إرشاد الإنسان وهدايته وتمكينه من تحقيق عبوديته وإسلامه لله وحده: ) يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب، ويعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور مبين [ المائدة (16-17)
ومن ثم فالقرآن الكريم منذ أن أنزله الله عز وجل على رسوله ﷺ، يبقى هو المصدر السماوي لدين الله، ولكنه ليس المصدر الوحيد، ذلك أن الله عز وجل أوحى إلى نبيه الكريم بوحي آخر غير القرآن ألا وهو السنة النبوية الشريفة.
وهذه قضية لم ولن يختلف عليها اثنان من المسلمين أفرادا وجماعات، مدارسا وفرقا، مذاهبا واتجاهات.
الاختلاف واقع في المنهج لا في المصدر
والمنهج يراد به السبيل الفكري والخطوات الذهنية التي يتبعها فكر الباحث أو العارف في مساره بقصد تحصيل المعرفة.
وبناء على ذلك، نقول إن اختلاف المناهج هو من أهم العوامل التي أدت إلى ظهور الفرق، لذلك كان لزاما العمل على تحديد قواعد منهجية تضبط التعامل مع الحديث النبوي الشريف، في محاولة للوصول إلى معناه الحقيقي المراد به أو على الأقل الاقتراب من معناه.
ولا يمكن في هذه المعالجة طرح منهج شامل، وإنما هي بعض القواعد العامة التي تعين الدارس وتساعده على حسن فهم حديث رسول الله ﷺ، وهي قواعد قابلة للتطوير والتعديل والإضافة.
وقبل خوذ غمار هذا المجال الصعب لا بد من استحضار أمرين اثنين:
الأمر الأول: حسن القصد وتصحيح النية في التعامل مع السنة
فالمتعامل مع السنة لا بد أن يكون منوّرا بالأنوار الإلهية، ذلك أن إدراك سرّ الحديث النبوي الشريف لا يمسّ عمقه ولا يصل إلى كنهه إلّا المطهّرون عن أرجاس عالم المادة.
ولكي ينشرح صدره لأرواح المعاني وبطونها وسرّ الحقائق ومكنونها، وينفتح قلبه لتجريدها لا بد من تزكية النفس والخروج من رعوناتها، فلا علم إلا بالتزكية، وأن يقصد بهذا العلم وجه الله لا التكاثر. وقد صح في الحديث: " أول من تسعر بهم النار..."الحديث. وذكر من ضمنهم العالِم!
الأمر الثاني: الاحتراز من موانع وحجب الفهم السديد
لابد من التخلص من الحجب والموانع التي تحول دون الفهم السليم للسنة، أستعير عبارة حجة الإسلام الغزالي الذي قال في كتاب آداب تلاوة القرآن من الإحياء :« وحُجُبُ الفهم أربعة:
- أولها: أَنْ يَكُونَ الْهَمُّ مُنْصَرِفًا إِلَى تَحْقِيقِ الْحُرُوفِ بإخراجها من مَخَارِجِهَا وَهَذَا يَتَوَلَّى حِفْظَهُ شَيْطَانٌ وُكِّلَ بِالْقُرَّاءِ لِيَصْرِفَهُمْ عَنْ فَهْمِ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وجل ...
فَهَذَا يَكُونُ تَأَمُّلُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَخَارِجِ الْحُرُوفِ فَأَنَّى تَنْكَشِفُ لَهُ الْمَعَانِي وَأَعْظَمُ ضُحْكَةٍ لِلشَّيْطَانِ من كان مطيعاً لمثل هذا التلبيس.
- ثانيها: أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع، من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة، فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه، فلا يمَكِّنُهُ أن يخطر بباله غير معتقده، فصار نظره موقوفاً على مسموعه، فإن لمع برق على بعد، وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه.. حمل عليه شيطان التقليد حملة وقال: كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك؟! فيرى أن ذلك غرور من الشيطان فيتباعد منه ويحترز عن مثله....
- ثالثها: أن يكون مصراً على ذنب أو متصفاً بكبر أو مبتلى في الجملة بهوى في الدنيا مطاع؛ فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه، وهو كالخبث على المرآة، فيمنع جلية الحق من أن يتجلى فيه، وهو أعظم حجاب للقلب، وبه حجب الأكثرون،. وكلما كانت الشهوات أشد تراكما كما كانت معاني الكلام أشد احتجاباً، وكلما خف عن القلب أثقال الدنيا قرب تجلى المعنى فيه.
فالقلب مثل المرآة والشهوات مثل الصدإ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة، والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل تصقيل الجَلاَّء للمرآة...
- رابعها: أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي، وأن من فسر القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار، فهذا أيضا من الحجب العظيمة»([1]) إحياء علوم الدين ربع العبادات كتاب تلاوة القرآن في أعمال الباطن في التلاوة (2/ 303-306)
وما قاله حجة الإسلام الغزالي في فهم القرآن ينطبق بجلاء على المتعاملين مع حديث رسول الله ﷺ.
فالحجاب الأول: التكاثر في الرويات والوقوف عند الألفاظ دون الغوص على معانيها، وتمثلها في واقع الناس المعيش.
والحجاب الثاني: التعصب للمذهب الفقهي والجمود على ذلك.
والحجاب الثالث: الذنوب والمعاصي والهوى كلها حجب تحول دون الوقف على المعاني.
والحجاب الرابع: الوقوف عند ما فهمه القدامى وعلى كتبه السابقون في حين المجال رحب للعلماء الذين تضلعوا من علوم الشريعة وبلغوا مرتبة الاجتهاد، فإن ما نقل عن السابقين في فهم السنة ليس منتهى الإدراك، بل كم ترك المتقدم للمتأخر كما قيل.
وللتعامل مع الحديث النبوي الشريف لابد من مراحل منهجية:
المرحلة الأولى: التأكد من سلامة النص (التحقق من ثبوت النص)
أما القرآن فهو قطعي الثبوت وبالتالي فآياته ثابتة، ويبقى النظر في ثبوت الحديث هي الخطوة الأولى في المنهج العلمي الدقيق، حتى لا ينسب الخبر جزافا دون تمحيص إلى غير صاحبه، فكيف إذا كان الخبر واردا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو تشريع والاحتياط له أولى، لما فيه من عظيم الخطر إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم أو أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب، فمن روى حديثا غير متأكد من صحته كان آثما بفعله ذلك غاشا لعوام المسلمين.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن في أمته من يجيء بعده كذابين، فحذر منهم، ونهى عن قبول رواياتهم، كما أنه نهى عن الحديث بكل ما سُمع، حيث قال صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع"، وروى ابن وهب من الإمام مالك أنه قال له: «اعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع ولا يكون إماما أبدا وهو يحدث بكل ما سمع»، وروي عن ابن سيرين أنه قال: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم».
وهنا لا بد من التأكيد على أمور وهي:
- أولا: أهلية المصحح والمضعف ومعرفة من المؤهل للتعامل مع السنة.
فما يحدث اليوم من سوء فهم لنصوص الوحي يرجع بالأساس إلى فقدان أكثر المشتغلين بالفكر الإسلامي والمتعاملين مع قضايا الدين لأدوات تحليل خطابه وآليات تنزيله على الواقع؛ فصح فيهم ما قاله الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: «إنهم يتعلمون العلم يوم السبت ويصبحون فقهاء يوم الأحد ويفتون يوم الإثنين، كيف تصبح مفتيا في ثلاثة أيام بدون معلم!؟ »
ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، وحذر العلماء من التطفل على العلوم، ونادوا بالتخصص والأخذ عن الأمثل فالأمثل، ومجاوزة التخصص ضرب من التلصص.
- ثانيا: عمل الأئمة بالحديث يقويه: [عليه العمل عندنا /مضى به العمل]:
وقد قال مالك رحمه الله: الْعَمَلُ أَثْبُتُ مِنْ الْأَحَادِيثِ. قال: مَنْ اقْتَدَى بِهِ وَإِنَّهُ لَضَعِيفٌ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ. وكان رجال من التابعين تبلغهم عن غيرهم الأحاديث فيقولون: «ما نجهل هذا ولكن مضى العمل على غيره،»، وكان محمد بن أبي بكر بن جرير ربما قال له أخوه لِمَ لَمْ تَقْضِ بحدِيث كذا فيقول: لَمْ أَجِدِ النَّاسَ عَلَيْهِ.
فقد نقل القاضي عياض في ترتيب المدارك، قال مالك: «وقد كان رجال من أهل العلم من التابعين يحدثون بالأحاديث، وتبلغهم عن غيرهم، فيقولون: "ما نجهل هذا؛ ولكن مضى العمل على غيره».
- ثالثا: رد الحديث الذي ليس عليه العمل ليس دفعا في صدر الحديث:
وهو أمر درج عدد غير قليل من أهل العلم على وصف بعض الأحاديث بأنها (ليس عليها العمل) كالترمذي في سننه، وابن رجب في شرحه للعلل، والطحاوي في مشكل الآثار.
- رابعا: ضوابط وشروط العمل بقول الأئمة:
الضابط الأول: أن هذا الأمر لا يصح إلا فيمن كملت آلات الاجتهاد فيه.
الضابط الثاني: أن يغلب على ظنِّه أنّ الأئمة لم يبلغهم الحديث، لذلك انصرفوا عن العمل به.
الضابط الثالث: أن ينتفي المعارض.
الضابط الرابع: العلم بالأحاديث التّي أجمع الأئمة على تركها، ولم يعملوا بها رغم صِحتها. ومن نماذج الأحاديث الصحيحة التي لم يعمل بها حديث: "لعن الله السارق، يسرق البيضة، فتقطع يده"، وكخبر: "فإن شرب في الرابعة فاقتلوه".
المرحلة الثانية: البحث في صحة دلالة الحديث على الأمر المقصود (أي حسن فهم النص)
ونعني بذلك التأكد من مدلولات ألفاظ الحديث، وأن يتم التفريق بين الحقيقة والمجاز، ثم أن يتم فهم السنة في ضوء القرآن الكريم.
فإذا استوثق الباحث من ثبوت السنة فعليه أن يحسن فهم النص النبوي، وفق دلالات اللغة، وفي ضوء سياق الحديث، وسبب وروده، وفي ظلال النصوص القرآنية والنبوية الأخرى وفي إطار المبادئ العامة، والمقاصد الكلية للإسلام.
مع التأكد من سلامة النص من المعارض: (يعني أن لا يوجد دليل آخر يعارض دلالته).
فملاحظة المعارض متعين متقرر؛ لأن معرفة الدليل إنما يكون للمجتهد؛ لتوقفها على معرفة سلامته من المعارض بناء على وجوب البحث عنه، وهي متوقفة على استقراء الأدلة كلها ولا يقدر على ذلك إلا المجتهد.
ويشترط في العمل بالنص الظاهر البحث عن المعارض، هل له ناسخ أو مخصص أو مقيد أو غير ذلك، وحكي عن قوم أنه لا يشترط، فهذا الإمام مالك رحمه الله نجم السنن يقدّم العمل على الخبر، وكان يقول: «كان رجال من التابعين تبلغهم عن غيرهم الأحاديث فيقولون: ما نجهل هذا، ولكن مضى العمل على خلافه». وقال ابن المعذّل: سمعت إنساناً سأل ابن الماجشون: «لِم رويتم الحديث ثمّ تركتموه ؟، قال: لِيُعلَم أنّا على عِلم تركناه».
المرحلة الثالثة: حسن تنزيل النص
والتنزيل غير الفهم، إذ الفهم يهدف إلى تحصيل صورة المراد الإلهي في الأوامر والنواهـــي، أما التنزيل فهو يتعلق: بالوصل بين الوحي والواقع على معنى تبيين المسالك والكيفيات التي يأخذ بها الوحي مجراه نحو الوقوع ويأخذ بها الواقع مجراه نحو التكيف بالزامات الوحي، وهو ما اصطلح على تسميته في علم الأصول بـ:" تحقيق المناط " أي الوصل بين النص والواقع ولا بد لذلك من أصلين رئيسيين:
- العلم بمقاصد الأحكام: وهي المقاصد التي أراد الله أن تتحقق خلافة الإنسان على أساسها، -وجماع هذه المقاصد تحقيق مصلحة الإنسان وخيره في الدنيا والآخرة.
- العلم بالواقع: المقصود بالواقع في هذا المقام الأفعال الإنسانية التي يراد تنزيل الأحكام عليها وتوجيهها بحسبها.
المرحلة الرابعة: حسن الدعوة إلى السنة
إن كثيرا من المتحدثين عن الإسلام يفتقدون اللباقة والأدب المطلوبين في من يخاطب الناس ويدعوهم إلى الله . فالدعوة تكون بالرفق بالرحمة بالحب لا بالعنف والغلظة والتشديد على الناس.
قال الله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وقال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه"رواه مسلم.
خاتمة
وختم الأستاذ الفاضل بقوله بأنه يتعين على من يريد التعامل مع السنة ألا يقدم على ذلك، إن كان جاهلا بما سبق ذكره، ومن حفظ النصوص واستوعبها يصير محدثا ناقلا فقط لا إماما مجتهدا.
لذا يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ يريد التعامل مع السنة أن يتزود بعلوم الشريعة ويتسلح بعلوم الآلة، مستمدا المدد والعون والتوفيق ممن بيده مقاليد السماوات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله جل في علاه.
إعداد المرشدة: أسماء بوخريص.