منهج أهل الحديث في نقد النصوص

الأستاذ المصطفى زمهنى في درس حديثي بياني بعنوان "منهج أهل الحديث في نقد النصوص"
0

إن أمة الإسلام أمة النص بامتياز، قامت بالنص، وعلا شأنها بالنص، ويستمر وجودها بالنص. والمقصود بالنص هنا القرآن الكريم أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

لذلك امتدت إلى هذه النصوص ولا سيما الحديثية أيادي الزيغ، لتجعلها بعيدة عن المعنى العام الذي وردت في سياقه 

المنهج النقدي عند المحدثين

 قيض الله لهذه الأمة علماء عدولا، يتولون مهمة حفظ هذه السنة والذود عنها من خلال دراسة أسانيدها والتفتيش في أحوال رواتها، لذلك وضعوا منهجاً دقيقاً فريداً لكل ما يتعلق بالسند والمتن، واستفرغوا وسعهم للنظر فيهما معا وفي أحوال الرجال وصفاتهم...، فتعاملوا مع الحديث النبوي الشريف على أنه دين وأنه ذكر، وأن الأمة الإسلامية إنما تتعبد الله عز وجل بهذا الحديث، ودققوا البحث في المتن من جهات متعددة، ومن ذلك: 

  • عرضهم الحديث النبوي الشريف على كتاب الله عز وجل. 

  • نظروا إلى جملة الأحاديث التي وردت في الموضوع الواحد. 

  • نظروا إلى القواعد العامة ومقاصد الشريعة. 

  • نظروا إلى اللغة وما يقتضيه كلام العرب. 

  • نظروا إلى السياقات المختلفة. 

والغرض الأساس من كل هذا هو أن يتأكدوا من صحة الحديث وأن المتن سليم صحيح. 

بعد ذلك عمل المحدثون على أن يبينوا للناس ما ينبغي أن يُعمل به وما لا ينبغي أن يُعمل به. وحتى وإن وجدوا الحديث ضعيفاً لم يتركوه البتة، بل نظروا فيه هل له شواهد وهل له متابعات. 

فأهل الحديث أرادوا بهذا الجهد كله أن يبينوا للأمة الإسلامية ما ينبغي أن يكون عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه نماذج من عمل المحدثين في هذه الأحاديث المصطفاة على سبيل التمثيل. 

الحديث الأول: حديث صحيح يعمل به 

حدثنا أبو نعيم حدثنا زكرياء عن عامر قال: سمعته يقول سمعت النّعمان بن بشير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه البخاري. 

وعند مسلم: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). 

هذا الحديث متفق عليه، أي أخرجه الإمامان البخاري ومسلم، فالحديث يستجيب لشرط البخاري، كما أنه يستجيب للشرط الذي وضعه الإمام مسلم رحمهم الله جميعا . 

وقول متفق عليه، يعني أن هذا الحديث في أعلى مراتب الصحيح، وقد ذكر علماء الحديث أن مراتب الصحيح سبعة: 

  1. ما اتفق عليه البخاري ومسلم وأخرجاه. 

  1. ما كان على شرط البخاري وأخرجه. 

  1. ما كان على شرط مسلم وأخرجه. 

  1. ما كان على شرطهما ولم يخرجاه. 

  1. ما كان على شرط البخاري ولم يخرجه. 

  1. ما كان على شرط مسلم ولم يخرجه. 

  1. ما أخرجه غير الإمام البخاري والإمام مسلم في كتاب من الكتب والتزم فيه الصحة 

فالحديث في أعلى درجات الصحة ليس فيه ما يوجب رده. 

راوي الحديث: 

النعمان بن بشير، صحابي جليل عاش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحمل ما تحمل في سبيل أن تقوم دولة الإسلام، ولد في السنة الثانية للهجرة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حوالي 114 حديثا، ثم إنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد معه المشاهد كلها، واستمر في خدمة الإسلام إلى أن استشهد يوم التمر سنة 65 للهجرة. 

شرح الحديث: 

يضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المثل، فيشبه المؤمنين في توادهم وتعاطفهم بالجسد الواحد، إذا اشتكى عضو من أعضائه أحست بقية الأعضاء بألم ذلك العضو، وهذا المعنى يؤكده النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، كما يبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن المؤمنين ينبغي أن يجسدوا الأخوة الحقيقية المتمثلة في توادهم وتراحمهم، وأن تتبدى مظاهر المجتمع الإسلامي وتظهر تجلياته على صعيد الفئات التي تتعايش في المجتمع الواحد، من خلال نشر المودة والمحبة تحقيقا للمبدأ العام ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾. 

الحديث الثاني: حديث صحيح لا يعمل به 

عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه". أخرجه الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما، وأخرجه الإمام مالك في موطئه، فالحديث في أعلى درجات الصحة. 

وسياق الحديث كان في غزوة حنين، وهذا الحديث وإن صح لم يعتمده بعض الفقهاء ولم يكن عليه العمل عندهم لأسباب، ولعل السبب في عدم العمل بهذا الحديث، أن علماءنا فهموا أن هذا الحديث إنما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الإمامة، فقد ميز العلماء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ما هو على سبيل التشريع، وما ليس على سبيل التشريع. وهذا الأمر قد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر". رواه مسلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم ميز في هذا الحديث بين ما يصدر منه باعتباره نبياً مبلغاً، وبين ما يصدر منه باعتباره قاضياً، أو مفتياً أو إماماً. 

وقد قسم ابن قتيبة هذه التصرفات إلى ثلاثة أقسام: 

  1. ما أوحى الله عز وجل إليه به وكان ملزما باتباعه وكانت الأمة ملزمة باتباعه إلى قيام الساعة، كما هو الشأن بالنسبة للعبادات. 

  1. ما أوكل الله تعالى أمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بإعمال رأيهِ فيه. 

  1. ما كان من باب الفضائل وباب السُّنة. 

بينما قسمها القرافي إلى أربعة أقسام: 

  1. ما كان من باب التبليغ. 

  1. ما كان من باب الإفتاء. 

  1. ما كان من باب القضاء. 

  1. ما كان من باب الإمامة. 

 فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا الحديث من باب تشجيع الصحابة الكرام على الإقبال في الحرب واستفراغ جهدهم من أجل أن يقدموا خدمة جليلة للدين، وأن الأمر لم يكن على سبيل التشريع، لذا ذهب الإمام مالك إلى أن السلب لا يكون إلا بإذن الإمام. 

فالتمييز بين تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم مسألة دقيقة في فهم الحديث النبوي الشريف، لذلك ينبغي لمن يدرس الحديث النبوي الشريف أن يدقق النظر حتى يكون فهمه فهماً سليماً بإذن الله تعالى. 

الحديث الثالث: حديث ضعيف يعمل به 

حدثنا أبو كريب حدثنا رشدين بن سعد عن زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتُّخِذ جسراً إلى جهنم"، رواه الترمذي وابن ماجه. 

هذا حديث ضعيف، وسبب ضعفه أن فيه "رشدين بن سعد" وهو متهم في حفظه، و"زبان بن فائد" هو أيضا ضعيف، كما حقق ذلك ابن حجر. والحديث أيضاً رواه أحمد من طريق "عبد الله بن لهيعة" وهو مُتَكلَّم فيه؛ حيث إن العلماء جرَّحوه. 

بيد أن هذا الحديث وإن كان ضعيفا إلا أن عليه العمل كما قال الترمذي، لورود أحاديث أخرى تشهد له ومنها:         

الشاهد الأول: أخرج ابن ماجه في سننه أن رجلا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجعل يتخطى الرقاب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس فقد آذيت وآنيت"، وهذا الحديث في سنده إسماعيل بن مسلم وهو أيضا ضعّفه العلماء. 

الشاهد الثاني: ما أخرجه أبو داود في سننه أن رجلا دخل المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس فقد آذيت"، فالحديث حسن، في سنده معاوية بن صالح، وهو راو صدوق له أوهام كما قال علماء الجرح والتعديل. 

فهذان الحديثان يشهدان للحديث الأول، لذا ذهب العلماء في الراجح من قولهم إلى أن تخطي الرقاب والإمام يخطب يوم الجمعة مكروه، كالشافعية والحنابلة والمالكية الذين قيدوا الكراهة بوقت، وهو عندما يدخل الخطيب إلى المسجد ويصعد على المنبر. 

فالحديث وإن كان حديثا ضعيفا، لم يطرحه العلماء ولم يتركوه دون أن يعملوه، بل نظروا في شواهده فوجدوا أن هنالك ما يعضده ويسنده ويشهد له، فعملوا به. 

خلاصة مهمة 

لم يتعامل العلماء مع مصطلح الحديث بشكل آلي، إنما تعاملوا معه من خلال تدقيق النظر في الأحاديث النبوية الشريفة، فقد يكون الحديث صحيحا لكنه يمكن ألاّ يعمل به، وقد يكون الحديث ضعيفا ولكن يمكن أن يعمل به. 

ولم يقتصروا على هذا النظر المتعلق بما هو آلي، وإنما بحثوا في كل جوانب الحديث النبوي الشريف وكانت رؤيتهم رؤية عميقة. 

الحديث الرابع: حديث ضعيف لا يعمل به 

حديث حترسوا من الناس بسوء الظن"، أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق بقية عن أنس مرفوعا، وقال: تفرد به بقية، وبقية مدلس، قال الإمام العجلوني في "كشف الخفا" بأن جميع طرق هذا الحديث ضعيفة، أمّا الإمام البيهقي فقد نسب هذا الحديث لكلام العرب. 

 وبهذا يتضح بأن هذا الحديث ضعيف جدا من حيث السند وكذلك من حيث المتن، إذ إن النظر في القرآن الكريم يقودنا إلى الحكم عليه بالضعف، فالله عز وجل يأمرنا بحسن الظن وأن ننأى بأنفسنا عن الوقوع في الظن، قال تعالى:﴿يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم (الحجرات: 12)، فالآية الكريمة تبين الأخلاق التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن، ومنها الابتعاد عن الظن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا في الحديث المتفق عليه: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث". 

فالحديث مخالف للقرآن ومخالف للحديث المتفق عليه، ومخالف كذلك للذوق السليم، فلا يمكن أن يكون صحيحا. 

 من خلال هذه الأنواع الأربعة من الأحاديث النبوية الشريفة، يتأكد لنا أنّ علماء الحديث صاروا على منهج دقيق، هذا المنهج لم يكن منهجا آلياً، وإنما نظروا نظرة عميقة متفحصة فيما يرتبط بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، حيث ينظرون إلى السند فإذا صح وكان سالماً من كل أسباب الردِّ من سقطٍ وغيره، حكموا للسند بالصحة، ونظروا إلى المتن من حيث الشذوذ، و نظروا حتى إلى اللفظة هل فيها تصحيف، وهل وقع فيها نوع من  التغيير على مستوى النقط أو الرسم، و بعدما تأكدوا من أن النص وصل إلينا كما قاله صاحبه انتقلوا إلى مرحلة الفهم. 

فهم ينظرون في الإسناد نظرة المتمكن الذي يعرف الرجال والأسانيد والروايات ويقابل فيما بينها لأجل أن يصل إلى صحة الحديث وسلامته، و كذلك ما يرتبط بفقه الحديث "رب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه". فقد كان علماؤنا يجمعون بين الرواية وبين الدراية، حتى لا ينقلوا كلاماً يكون معناه على خلاف ما رووه، وذلك فإن الحنفية والمالكية كانوا يشترطون في الراوي أن يكون فقيهاً؛ أي أن يكون عارفاً ومتمكناً وعلى دراية بما يحمله النص المروي من أحكام. 

وهذا منهج دقيق يُفهمنا أن هذا الأمر المتعلق بالحديث النبوي الشريف ليس مُتاحا لأي كان، وإنما لابد لهذا الحديث النبوي الشريف من أن يكون صادراً عن أهله، من علماء الحديث الذين يميزون بين الروايات فيما بينها، ويعرفون أسباب الورود والسياقات، ويقابلون بين النسخ. 

 هذا كله لكي يصل الحديث إلى الناس كما قاله صاحبه، وهذه أمانة، وهذا الدين إنما هو أمانة، وينبغي لمن يتكلم فيه أن يكون أمينا مستأمنا على كلامه صلى الله عليه وسلم، حيث ورد وعيد في من يتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم  كذبا وزورا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، لذلك فعلماء الإسلام استلهموا هذا الأمر. 

وعليه فكل من تكلم في الحديث النبوي الشريف إذا لم يكن معروفاً بأخلاقه ونزاهته وفضله وزهده وعلمه فإنه لا يؤخذ عنه، وهذا على خلاف العلوم الأخرى، إذ يتعين على عالم الحديث أن يكون متعالياً عن أهوائه وميولاته، وأن يكون أميناً من أجل أن يكون كلامه لله وبالله وفي الله.

ذ. المصطفى زمهنى

الحديث الصحيح

الحديث الضعيف