معالم منهج الإمام البخاري في صحيحه

معالم منهج الإمام البخاري في صحيحه للأستاذ محمد مشان
0

سمى البخاري صحيحه: "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه".

سبب التأليف:

قال البخاري: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: "لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع "الجامع الصحيح".

وعنه أيضا: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه، وبيدي مروحة أذب عنه، فسألت بعض المعبرين، فقال لي: أنت تذب عنه الكذب فهو الذي حملني على إخراج "الجامع الصحيح".

وقد كانت كتب قبله ممزوجة بالصحيح وغيره، كأقوال الصحابة، وفتاوى التابعين، إلى أن جاء البخاري فخص الحديث الصحيح بكتاب دون أن يدرج فيه الضعيف، ولا خلط فيه أقوال الصحابة والتابعين.

فضل الجامع "الصحيح":

قال البخاري: "صنفت كتاب "الصحيح" لست عشرة سنة، خرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة بيني وبين الله".

ولم يخرج فيه إلا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسند المتصل الذي توفرت في رجاله العدالة والضبط، ومكث في تصنيفه –كما ذكر– 16 سنة، وما وضع فيه حديثا إلا اغتسل قبله وصلى ركعتين، ولما أتمه عرضه على الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وغيرهم، فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة.

وقد تلقاه العلماء بالقبول في كل عصر، وشهدوا له بالتفوق على كل ما سبقه من المصنفات.

قال البخاري: "ما أدخلت في كتاب "الجامع" إلا ما صح، وتركت من الصحاح مخافة (خشية لملال) الطول"، لذلك فضله الجمهور.

قال النووي: "اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن الكريم "الصحيحان" "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم"، وتلقاهما الأئمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما صحيحا، أكثرهما فوائد".(1)Z

__________

1 – مقدمة شرح مسلم: للنووي /ص: 14.

 

وقال عنه الذهبي: "وأما "جامع البخاري الصحيح" فأجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى، قال: فلو رحل الشخص لسماعه من ألف فرسخ لما ضاعت رحلته".(2)

عدد أحاديثه:

وأما عدد أحاديث "صحيح البخاري" فقال ابن الصلاح: "وجملة ما في كتابه "الصحيح" سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون 7275، وقد قيل إنها بإسقاط المكرر أربعة آلاف، وتبعه النووي".

وتعقب ذلك ابن حجر بابا بابا محررا، قال: "جميع أحاديث بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات على ما حررته وأتقنته سبعة آلاف وثلاث مائة وسبعة وتسعون حديثا 7397، والخالص من ذلك بلا تكرير ألفا حديث وستمائة حديث 2600".(3)

رواة الصحيح:

وقد سمعه منه نحو 920 ألف راو، واشتهر منهم:

  • أبو عبيد الله الفربري (320هـ): وكان سماعه "للصحيح" مرتين بفربر سنة 248 هـ وببخارى سنة 252 هـ.
  • إبراهيم بن معقل بن الحجاج النسفي (294 هـ): وكان من الحفاظ وله تصانيف، وفاته من "الجامع" أوراق رواها بالإجازة عن البخاري.
  • حماد بن شاكر النسوي (290 هـ): وفاته منه شيء أيضا.
  • أبو طلحة منصور بن محمد البزدوي (392هـ): وهو آخر من حدث عن البخاري بصحيحه.

شروح صحيح البخاري:

للبخاري عدة شروح، من أشهرها وأهمها:

1 – أعلام السنن: للخطابي 388 هـ طبع بتحقيق د. يوسف الكتاني.

2 – الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري: لمحمد بن يوسف الكرماني 786 هـ.

3 – فتح الباري في شرح صحيح البخاري: لابن حجر العسقلاني 852 هـ.

4 – عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري: لبدر الدين العيني 855 هـ.

5 – إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: للقسطلاني 923 هـ.

اختصارات الصحيح:

وممن اختصره.

1 – الإمام جمال الدين أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي 656 هـ.

2 – الشيخ بدر الدين حسن بن عمر بن حبيب الحلبي 779 هـ.

3 – الإمام زين الدين أبو العباس أحمد الزبيدي 893 هـ.

معالم منهج البخاري في صحيحه:

1 – التدقيق وتحري الصحة:

قال طاهر بن صالح الجزائري في "توجيه النظر إلى أصول الأثر":

اعلم أن البخاري لم يوجد عنده تصريح بشرط معين، وإنما أخذ ذلك من تسمية الكتاب والاستقراء من تصرفه.

أما أولا: فإنه سماه "الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه"، فعلم من قوله "الجامع" أنه لم يخصه بصنف دون صنف، ولهذا أورد الأحكام والفضائل والأخبار عن الأمور الماضية والآتية، وغير ذلك من الآداب والرقائق، ومن قوله "الصحيح" أنه ليس فيه شيء ضعيف عنده، وإن كان فيه مواضع قد انتقدها غيره، فقد أجيب عنها، 

_____________

2 – سير أعلم النبلاء، ج :ص.

3 – انظر التقييد والإيضاح، ص :27، والتدريب :1/103، وهدي الساري، ص :489 -439.

وقد صح عنه أنه قال: "ما أدخلت في "الجامع" إلا ما صح.

وأما ما عرف بالاستقراء من تصرفه، فهو أنه يخرج الحديث الذي اتصل إسناده، وكان كل من رواته عدلا موصوفا بالضبط، فإن قصر احتاج إلى ما يجبر ذلك التقصير، وخلا عن أن يكون: معلولا: أي فيه علة خفية قادحة، أو شاذا: أي  خالف راويه من هو أكثر عددا منه، أو أشد ضبطا مخالفة تستلزم التنافي، ويتعذر معه الجمع الذي لا يكون فيه تعسف.

والاتصال عندهم أن يعبر كل من الرواة في روايته عن شيخه بصفة صريحة في السماع منه كسمعته، وحدثني، وأخبرني، أو ظاهرة فيه كعن أو أن فلانا قال. وهذا الثاني في غير المدلس الثقة. أما هو فلا يقبل منه إلا المرتبة الأولى، وشرط حمل الثاني على السماع عند البخاري أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من حدث عنه ولو مرة واحدة.

وعرف بالاستقراء من تصرفه في الرجال الذين يخرج لهم أنه ينتقي أكثرهم صحبة لشيخه وأعرفهم بحديثه، وإن أخرج من حديثه من لم يكن بهذه الصفة، فإنما يخرج في المتابعات أو حيث تقوم له قرينة بأن ذلك مما ضبطه هذا الراوي، فبمجموع ذلك وصف الأئمة كتابه قديما وحديثا بأنه أصح الكتب المصنفة في الحديث".(4)

وقد قال البخاري عن صحيحه: "أخرجت هذا الكتاب من نحو ستمائة ألف حديث، وصنفته في ست عشرة سنة، وجعلته حجة بيني وبين الله، وما أدخلت في "الجامع" إلا ما صح، وتركت من الصحاح لأجل الطول".

وروى ابن حجر عن البخاري أنه قال: "ما كتبت في كتاب "الصحيح" حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين".

وقد صنفه في المسجد الحرام، وجمع تراجمه بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره.

وقد ذهب الحافظ ابن حجر إلى جمع الروايات المختلفة حول مكان تأليفه إلى القول بأن البخاري ابتدأ تصنيفه ووضع تخطيطه العام في المسجد الحرام، ثم أكمله وبيضه في بخارى، بدليل طول مدة تأليفه.

وقد عرف البخاري بكثرة تعهده لكتابه ودقته وتثبته في إخراج الجامع حتى اعتبر أمير المؤمنين في الحديث، وكتابه أصح كتاب بعد كتب الله.

2 – تكرار الحديث:

نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" عن أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي قوله:

"اعلم أن البخاري رحمه الله كان يذكر الحديث في كتابه في مواضع، ويستدل به في كل باب بإسناد آخر، ويستخرج منه بحسن استنباطه، وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه، وقلما يورد حديثا في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد، وإنما يورده من طريق آخر لمعان نذكرها، والله أعلم بمراده منها.

فمنها أنه يخرج الحديث عن صحابي ثم يورده عن صحابي آخر، والمقصود منه أن يخرج الحديث عن حد الغرابة.. فيعتقد من يرى ذلك من غير أهل الصنعة أنه تكرار، وليس كذلك لاشتماله على فائدة زائدة.

ومنها أنه صح أحاديث على هذه القاعدة، يشتمل كل حديث منها على معان متغايرة، فيوردها في كل باب من غير الطرق الأولى.

ومنها أحاديث يرويها بعض الرواة تامة، ويرويها بعضهم مختصرة، فيوردها كما جاءت ليزيل الشبهة عن ناقليها.

ومنها أن الرواة ربما اختلفت عباراتهم، فحدث راو بحديث فيه كلمة تحتمل معنى، وحدث به آخر فيعبر عن تلك الكلمة بعينها بعبارة أخرى تحتمل معنى آخر، فيورده بطرقه إذا صحت على شرطه، ويفرد لكل لفظة بابا مفردا.Z

__________

4 – توجيه النظر لأصول الأثر :طاهر الجزائري /ص :88.

ومنها أحاديث تعارض فيها الوصل والإرسال، ورجح عنده الوصل فاعتده، وأورد الإرسال منبها إلى أنه لا تأثير له عنده في الوصل.

ومنها أحاديث تعارض فيها الوقف، والرفع، والحكم فيها كذلك.

ومنها أحاديث زاد فيها بعض الرواة رجلا في الإسناد، ونقصه بعضهم فيوردها على الوجهين، حيث يصح عنده أن الراوي سمعه من شيخ حدث به عن آخر، ثم لقي الآخر فحدثه به فكان يرويه على الوجهين.

ومنها أنه ربما أورد حديثا عنعنه راويه فيورده من طرق أخرى مصرحا فيها بالسماع على ما عرف من طريقته في اشتراط ثبوت اللقاء في المعنعن".(5)

"إن المصنف لما شدد في شروط الأحاديث، قلت ذخيرة الحديث في كتابه، ولما أراد أن يتمسك منها على جملة أبواب الفقه، اضطر إلى التكرار والتوسع في وجوه الاستدلال، وذلك من كمال بداعته، ومن لا دراية له بغوامضه، ولا ذوق له في علومه، يتعجب من صحيحه، ولا يدري أن التوسع فيه من أجل تضييقه على نفسه في مادة الأحاديث، فيستدل بالإيماءات، ويكتفي بالإمضاءات".(6)

فالبخاري لا يلجأ إلى ذلك إلا بمرامي وأهداف، قال ابن حجر: "وإذا تقرر ذلك اتضح أنه لا يعيد إلا لفائدة حتى لو لم تظهر لإعادته فائدة من جهة الإسناد، ولا من جهة المتن، لكان ذلك لإعادته لأجل مغايرة الحكم الذي تشتمل عليه الترجمة الثانية موجبا لئلا يعد مكررا بلا فائدة".(7)

وما ألطف قول القائل (ابن الديبع) :

قالوا: لمسلم فضل

قال: البخاري أعلى

قالوا: المكرر فيه

قلت: المكرر أحلى

نماذج من الأحاديث المكررة عند البخاري:

حديث: "توبة كعب بن مالك"، أخرجه البخاري في: كتاب الوصايا، في كتاب الجهاد (خمس مرات) وكتاب المناقب، وكتاب مناقب الأنصار، وكتاب المغازي (مرتين) وكتاب التفسير (أربعة مرات) وكتاب الاستئذان، وكتاب الأيمان والنذور، وكتاب الأحكام.

أما مسلم فقد أخرجه في كتاب التوبة.

حديث: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي":

أخرجه البخاري في كتاب التيمم، وكتاب الصلاة، وكتاب فرض الخمس.

وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة.

3 – اختصار الحديث وروايته بالمعنى:

اختلف العلماء في ذلك، فمنعه قوم؛ لأنه يؤدي إلى تغيير الحديث وإبطال معناه.

وفي مقدمة هؤلاء المانعين: القاضي عياض رحمه الله، الذي بين سبب المنع فقال: "لأنه متى فتح هذا الباب لم يثق بعد بتحمل رواية، ولا أنس إلى الاعتداد بسماع، مع أنه قد لا يسلم له ما رأى، ولا يوافق على ما أتاه، إذ فوق كل ذي علم عليم، ولهذا سد المحققون باب الحديث عل المعنى، وشددوا فيه، وهو الحق الذي أعتقده ولا أمتريه، إذ باب الاحتمال مفتوح، والكلام بالتأويل معرض، وأفهام الناس مختلفة، والرأي ليس في صدر واحد، والمرء يفتن بكلامه ونظره، والمغتر يعتقد الكمال في نفسه، فإذا فتح هذا الباب، وأوردت الأخبار على ما ينفهم للراوي منها لم يتحقق أصل المشروع".(8)

ولذلك قال في "الإكمال": "لكن لحماية الباب من تسلط من لا يحسن، وغلط الجهلة في نفوسهم  وظنهم المعرفة مع القصور، يجب سد هذا الباب، إذ فعل هذا 

___________

5 – هدي الساري، ص: 17.

6 – نقلا عن الإمام البخاري و"جامعه الصحيح" /د. يوسف الكتاني، ص :83.

7 – هدي الساري، ص: 18.

8 – مشارق الأنوار للقاضي عياض 1/ 4.

على من لم يبلغ درجة الكمال في معرفة المعاني حرام باتفاق..".(9)

وأجاز الراوية جماعة العلماء أو أكثرهم ولكن للعالم دون من سواه.

ومن أهم أسباب الرواية بالمعنى عند البخاري:

1 – تكراره.

2 – تنقله ورحلاته وبعده عن مصادره.

وللتوسع في موضوع الرواية بالمعنى وللوقوف على أدلة المانعين والمجيزين، يرجع إلى:

- المحدث الفاصل: للرامهرمزي 360 هـ، بتحقيق محمد عجاج الخطيب (ص :533 – 543).

- الإحكام في أصول الأحكام: لابن حزم 456 هـ (م / 86 -90) 8.

- الكفاية في علم الرواية: للخطيب البغدادي 463 هـ بتحقيق أحمد عمر هاشم ص: 193 -247.

- الإلماع: للقاضي عياض، بتحقيق: السيد أحمد صقر (ص: 174 -182).

- مقدمة ابن الصلاح مع شرحها التقييد والإيضاح: للعراقي ( ص: 189 -191).

- التبصرة والتذكرة، للعراقي (2 /168-170).

- فتح المغيث: للسخاوي (2/241-250)

- تدريب الراوي شرح تقريب النووي، للسيوطي: (2/98-104).

- ألفية السيوطي: بشرح أحمد محمد شاكر ( ص: 161-164).

- توجيه النظر، لطه الجزائري (ص: 298-418).

- المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل، للدكتور فارو ق حمادة ( ص :228-234).

وغيرها كثير.

4 – تقطيع الحديث:

هو أن يأتي المصنف بالحديث الواحد في الأبواب بحسب الاحتجاج به في المسائل، كل مسألة على حدة، أي أن يقطع الحديث الواحد المشتمل على أحكام، ويضع كل قطعة منه في الباب المناسب.

ويرجع ذلك إلى:

أ – تعدد أحكام الحديث وأغراضه.

ب – تجنب البخاري التكرار وفراره منه.

وقد اختلف العلماء في التقطيع تبعا لاختلافهم في الرواية بالمعنى، فمنعه قوم خشية حصول الخلل، وتغيير وجه الحديث وإبطال معناه، وأباحه آخرون مطلقا، وأجازه قوم بشروط منها:

1 – أن يكون الحديث من عالم عارف بدقائق الألفاظ، متمكن راسخ القدم في العلم.

2 - أن يكون الحديث قد روي تاما عنده أو عند غيره.

3 – أن لا يوجد تعلق أو ارتباط بين أجزاء الحديث بحيث إذا قطعناه لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة.

ومنهم من اكتفى بالشرط الأول والثالث، وإليه ذهب الإمام مالك والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم.

قال الحافظ العراقي في ألفيته:

أما إذا قطع في الأبواب                    فهو إلى الجواز ذو اقتراب (10)

وقال ابن الأثير: "وما العجب إلا ممن منع ذلك، وقد رأى كتب الأئمة ومصنفاتهم وأحاديثهم، وهي مشحونة بأبعاض الحديث، يذكرون كل بعض منها في باب يخصه، يستدلون به على ذلك الحكم المودع في ذلك الباب، كيف والمقصد الأعظم في ذكر الحديث إنما هو الاستدلال به على الحكم الشرعي، فإذا ذكر من الحديث ما هو دليل على الحكم المستخرج منه، فقد حصل الغرض، لكن يبقى الأدب بالمحافظة على ألفاظ الرسولZ

_____________

9 – انظر الإلماع: للقاضي عياض / ص: 182.

10 – التبصرة والتذكرة، للعراقي / 2/171.

صلوات الله عيه، وإيرادها كما ذكرها وتلفظ بها".(11)

وقال ابن حجر العسقلاني: "وأما تقطيعه للحديث في الأبواب تارة واقتصاره منه على بعضه أخرى، فذلك لأنه إن كان المتن قصيرا أو مرتبطا بعضه ببعض، وقد اشتمل على حكمين فصاعدا، فإنه يعيده بحسب ذلك، مراعيا مع ذلك عدم إخلائه من فائدة حديثية، وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه قبل ذلك كما تقدم تفصيله، فتستفيد، بذلك تكثير الطرق لذلك الحديث، وربما ضاق عليه مخرج الحديث حيث لا يكون له إلا طريق واحد، فيتصرف حينئذ فيه فيورده في موضع موصولا، وفي موضع معلقا، ويورده تارة تاما وتارة مقتصرا على طرفه الذي يحتاج إليه في ذلك الباب، فإن كان المتن مشتملا على جمل متعددة لا تعلق لإحداها بالأخرى، فإنه يخرج كل جملة منها في باب مستقل فرارا من التطويل، وربما نشط فساقه بتمامه، فهذا كله في التقطيع.

وقد حكى بعض شراح البخاري أنه وقع في أثناء الحج في بعض النسخ بعد باب قصر الخطبة بعرفة (باب تعجيل الوقوف)، قال أبو عبد الله: يزاد في هذا الباب حديث مالك عن ابن شهاب، ولكني لا أريد أن أدخل فيه معادا. وهو يقتضي أنه لا يتعمد أن يخرج في كتابه حديثا معادا بجميع إسناده ومتنه، وإن كان قد وقع له من ذلك شيء فعن غير قصد، وهو قليل جدا...(12)

5 – الاقتصار على بعض الحديث:

وهو رواية بعض الحديث دون بعض، أو رواية الحديث على النقصان والحذف لبعض متنه، أو الحديث ببعض الحديث وفصل منه.

وقد اختلف العلماء في ذلك تبعا لاختلافهم في التقطيع والرواية بالمعنى، والراجح جوازه للعلماء بشروط.

قال جلال الدين السيوطي:

وجائز حذفك بعض الخبر                              إن لم يخل الباق عند الأكثر (13)

قال ابن حجر: "وأما اقتصاره على بعض المتن ثم لا يذكر الباقي في موضع آخر، فإنه لا يقع له ذلك في الغالب إلا حيث يكون المحذوف موقوفا على الصحابي، وفيه شيء قد يحكم برفعه، فيقتصر على الحملة التي يحكم لها بالرفع، ويحذف الباقي لأنه لا تعلق له بموضوع كتابه.."(14)

فالبخاري يحتفظ ببعض الحديث أو جزء منه، ولا يورد الآخر:

1 – إما لأنه ذكره تاما سابقا.

2 – وإما لأن المحذوف ليس على شرطه.

أ – لكونه من كلام الصحابي أي موقوف.

ب – أو لعدم صحته.

6 – تعليق الحديث:

والمعلق هو ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر، ولو على آخر الإسناد.

وينقسم التعليق عند البخاري إلى قسمين:

1 – القسم الأول: ما يوجد موصولا في مكان آخر من صحيحه، فهذا لا كلام فيه، إنه على شرط البخاري.

2 – القسم الثاني: ما لا يوجد فيه إلا معلقا، وهو على ضربين:

أ – ما ورده بصيغة الجزم: مثل: قال، روى.. فهذه الصيغة يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لكن يبقى النظر فيمن أبرز من رجال ذلك الحديث، فمنه ما يلتحق بشرطه، ومنه ما لا يلتحق.

_________

11 – جامع الأصول : لابن الأثير / 1/ 55.

12 – هدي الساري، ص :17 – 18 .

13 – ألفية السيوطي بشرح أحمد شاكر ، ص :165.

14 – هدي الساري ،ص :18.

 

ب – ما رواه بصيغة التمريض: لا تستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لكن فيه ما هو صحيح، وفيه ما ليس بصحيح، وما ليس على شرطه، ومنه ما هو حسن، وما هو ضعيف.

فهذا حكم جميع ما في الكتاب من التعاليق المرفوعة بصيغتي الجزم والتمريض.

فائــدة:

"نقل النووي اتفاق محققي المحدثين وغيرهم على اعتبارهما، وأنه لا ينبغي الجزم بشيء ضعيف لأنها صيغة تقتضي صحته عن المضاف إليه، فلا ينبغي أن تطلق إلا فيما صح، قال: وقد أهمل ذلك كثير من المصنفين من الفقهاء وغيرهم، واشتد إنكار البيهقي على من خالف ذلك وهو تساهل قبيح جدا من فاعله، إذ يقول في "الصحيح": "يذكر ويروى"، وفي "الضعيف" قال وروى"، وهذا قلب للمعاني وحيد عن الصواب، قال: "وقد اعتنى البخاري رحمه الله باعتبار هاتين الصيغتين وإعطاءهما حكمهما في صحيحه، فيقول في الترجمة الواحدة بعض كلامه بتمريض وبعضه بجزم مراعيا ما ذكرنا، وهذا مشعر بتحريه وورعه، وعلى هذا فيحمل قوله: "ما أدخلت في "الجامع" إلا ما صح، أي مما سقت إسناده والله تعالى أعلم".

وأما الموقوفات، فإنه يجزم منها بما صح عنده ولو لم يكن على شرطه، ولا يجزم لما كان في إسناده ضعف أو انقطاع إلا حيث يكون منجبرا، إما بمجيئه من وجه آخر، وإما بشهرته عمن قاله، وإنما يورد من الموقوفات من فتاوى الصحابة والتابعين، ومن تفاسيرهم لكثير من الآيات على طريق الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل التي فيها الخلاف بين الأئمة، فحينئذ ينبغي أن يقال جميع ما يورده فيه، إما أن يكون مما ترجم أو مما ترجم له، فالمقصود من هذا التصنيف بالذات هو الأحاديث الصحيحة المسندة، وهي التي ترجم لها، والمذكور بالعرض والتبع بالآثار الموقوفة والأحاديث المعلقة نعم والآيات المكرمة، فجميع ذلك مترجم به".(15)

وقد تحدث ابن حجر عن ذلك بتفصيل في "هدي الساري" بل وألف كتابا حافلا في هذا الموضوع أسماه "تغليق التعليق" ذكر فيه جميع أحاديثه المرفوعة، وآثاره الموقوفة، ومن وصلها.

7 – فن الترجمة عند الإمام البخاري:

سار البخاري في كتابه: "على عادة السلف والأقدمين، فإنهم يوردون النصوص والأحاديث المشكلة تحت عنوان الباب وترجمة توجه معناه، وتبين المراد منها، وتدفع ما هو غير مراد عنها، ويستغنون بذلك عن شرح ذلك النص وبيان تأويله، اكتفاء بالعنوان، إذ جعلوه بمثابة شرح للنص، أو توجيه له، أو تبيين لما ينبغي أن يفهم عليه".(16)

ولم يقصد البخاري بكتابه "الصحيح" الاقتصار على الحديث وتكثير المتون، بل كان مراده الاستنباط منها، فقد التزم مع صحة الأحاديث استنباط الفوائد الفقهية، فاستخرج بفهمه الثاقب من المتون معاني كثيرة فرقها في أبوابه بحسب المناسبة، فجمع في تراجمه بين القرآن والحديث والفقه، فقد يذكر في الترجمة آيات كثيرة من القرآن الكريم، وربما ذكر الآثار والأقوال المأثورة عن الصحابة وغيرهم، فجاء كتابه كتابا حافلا غنيا، حيث "ساق الفقه في التراجم سياقة المخلص للسنن المحضة عن المزاحم، المستثير لفوائد الأحاديث من مكامنها، المستبين من إشارات ظواهرها مغازي بواطنها، فجمع كتابه العلمين والخيرين الجمين، فحاز كتابه من السنة جلالتها، ومن المسائل الفقهية سلالتها، وهذا غوص ساعده عليه التوفيق، ومذهب في التحقيق دقيق".(17)

____________

15 – انظر هدي الساري، ص: 19 -21.

16 – منهج السلف في السؤال عن العلم وفي تعلم ما يقع وما لم يقع: عبد الفتاح أبو غدة /ص: 17.

17 – المتواري على أبواب البخاري لابن المنير، ص: 39 -40.

 

فتراجمه صورة حية لاجتهاده وعبقريته، وهي دلالة على نبوغه وتفوقه وقوة استنباطه حتى قيل: "فقه البخاري في تراجمه".

بم يترجم البخاري أبوابه؟

قد يترجم البخاري أبواب كتابه بـ :

1 – آية قرآنية:

فيجعل الآية عنوانا للباب، والمقصود من ذلك تأويل الآية، أو الاستدلال بها لحكم من الأحكام، ثم تقوية هذا التأويل والاستدلال بما يخرج من الحديث.

مثاله في كتاب الإيمان: باب {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} فسماهم المؤمنين أخرج في هذا الكتاب حديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار".

وفي نفس الكتاب باب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} (التوبة، الآية :5)

أخرج فيه حديث ابن عمر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة..." الحديث.

وفي كتاب العلم، باب قول الله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء، الآية: 84).

أخرج فيه حديث سؤال اليهود نبي الله عن الروح...

وغيرها كثير.

2 – حديث نبوي:

وقد يترجم أبوابه بحديث نبوي، وله في ذلك عدة سبل:

فأحيانا يذكر في الترجمة حديثا تاما بلفظه ومعناه، وأحيانا يكتفي بمعنى الحديث، وأخرى بجزء من الحديث.

وقد يكون الحديث صحيحا على شرطه أو ضعيفا وليس على شرطه، فكثيرا ما يترجم بلفظ يومئ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه، أو يأتي بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه صريحا في الترجمة كحديث "باب الأمراء من قريش" وحديث "اثنان فما فوقهما جماعة" وقد يترجم بحديث معلق، وغيره، على أنه لا يوجد فيه حديث رواه.

مثاله" في كتاب "الإيمان" باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس، وهو قول وفعل".

باب: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".

باب: "أي الإسلام أفضل؟".

3 – آثار الصحابة وأقوال التابعين وأئمة المذاهب:

مثاله:

في كتاب "الوضوء":

باب: "من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، وأكل أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فلم يتوضأوا".

في كتاب "الصلاة":

باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء؟ وقال ابن عباس: حدثني أبو سفيان في حديث هرقل فقال: يأمرنا – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – بالصلاة والصدق والعفاف.

باب: التيمن في دخول المسجد وغيره، وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى، فإذا خرج بدأ برجله اليسرى.

في كتاب "العلم":

باب: كيف يقبض العلم؟ وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولتفشوا العلم، 

ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا".

4 – الترجمة بعباراته وكلامه:

أي إنه يترجم بكلامه وبعباراته هو، وله في ذلك عدة صيغ.

كيف يترجم البخاري أبوابه؟

أ – التراجم الظاهرة:

وهي أن تكون الترجمة دالة بالمطابقة بما يورد في ضمنها، وإنما فائدتها الإعلام بما ورد في ذلك الباب من غير اعتبار لمقدار تلك الفائدة، كأنه يقول هذا الباب الذي فيه كيت وكيت، أو باب ذكر الدليل على الحكم الفلاني مثلا.

وله مسالك في التراجم الظاهرة، فقد يترجم:

1 – بصيغة خبرية عامة: باب / من رفع صوته بالعلم – باب الفهم في العلم.

2 – صيغة خبرية خاصة: باب / ما جاء في أن الإقامة مثنى مثنى.

3 – صيغة الاستفهام باب / متى يصح سماع الصغير؟

4 – أن يترجم بعبارة شرطية: إذا كذا كذا..

5 – الإخبار عن بدء الحكم وظهور الشيء: باب / كيف كان بدء الوحي؟ باب / ما جاء في الآذان وغيرها.

ب – التراجم الاستنباطية أو الخفية:

لقد كان البخاري لطيف الأخذ لفوائد الحديث، دقيق الفكرة فيها، وكان ربما عرض له استدلال على الترجمة بالحديث الواضح المطابق، فعدل إلى الأخذ من الإشارة والرمز به، وكان على الصواب في ذلك، لأن الحديث البين يستوي الناس في الأخذ منه، وإنما يتفاوتون في الاستنباط من الإشارات الخفية، ولم يكن مقصود البخاري كغيره: يملأ الصحف بما سبق إليه، وبما يعتمد في مثله على الأفهام العامة، وإنما كان مقصده فائدة زائدة.

فالبخاري يقصد شحذ ذهن الطالب وتمرينه على التفهم والاستنباط، فهذا النوع من التراجم الخفية يحتاج إلى إعمال الذهن وشحذ القريحة، لقد:

أعيا فحول العلم حل رموز ما          أبداه في الأبواب من أسرار

مثاله: باب / ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع، أو مجاوزة الحد الذي أمر به، وذكر فيه حديث أبي أمامة الباهلي قال: ورأى سكة وشيئا من آلة الحرث فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل".

ج – التراجم المرسلة:

وهي التي أرسلت فلم تذكر لها عناوين، واكتفى عنها كلمة العنوان "باب" ويلجأ إلى ذلك حين يكون مضمون الباب متصلا بالسابق مكملا له، فيفصل لفائدة زائدة في مضمونه، فيكون بمنزلة الفصل من السابق: أي أنه متعلق بالباب السابق فهو فقرة منه (أو جزء منه).

د – التراجم المفردة:

وهي التراجم التي يجعلها البخاري في باب من الأبواب، ثم لا يخرج شيئا من الحديث للدلالة عليها.

مثالها: باب / يستقبل بأطراف رجليه القبلة، قاله أبو حميد الساعد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

باب / قول الله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا} ثم لم يخرج فيهما شيئا من الحديث للدلالة على ما ترجم له.

قال الحافظ ابن حجر: "وربما اكتفى بلفظ الترجمة التي هي حديث لم يصح على شرطه، وأورده معها أثراZ أو آية، فكأنه يقول: "لم يصح في الباب شيء على شرطي".(18)

وقد خفي منهج البخاري على بضع من لم يمعن النظر فاعترض عليه، ومنهم من زعم أن الموت اخترم البخاري قبل أن يبيض كتابه، وكل ذلك لا أساس له من الصحة، وإنما هو جهل بمنهج هذا الإمام في تراجمه التي تعد الجهة العظمى الموجبة تقديمه (أي ما ضمنه أبوابه من التراجم التي حيرت الأفكار وأدهشت العقول والأبصار).

الأحاديث المعلقة في صحيح البخاري

       ما يوجد موصولا في مكان آخر على شطره

وهي قسمان:     

ما لا يوجد فيه إلا معلقا

صيغة الجزم                     صيغة التمريض

الصحة إلى من علق عنه صحيح حسن ضعيف، وليس فيه

لم لم يذكرها مسندة مادامت

صحيحة عمن علق عنه؟

1 – لأنه أخرج ما يقوم مقامها.

2 – خشية التكرار، ومخافة الطول.

3 – لأنه سمعها بواسطة.

4 – لأنها سمعا مذاكرة.

5 – لأنه شك في سماعه من شيخه.

6 – لأنه سمعها ممن ليس من شرط الكتاب.

تراجم صحيح البخاري

ما يترجم له    آيات قرآنية

 أحاديث نبوية  صحيحة  غير مقصورة،

معلقة وإنما ذكرت تبعا وعرضا  وهي تثمل فقه الإمام البخاري

أقوال الصحابة  والتابعين   صحيحة    معلقة

    عبارته هو

 

ما يترجم له             أحاديث في الدرجة العليا                           وهي الغاية المقصودة من الكتاب

                        من الصحة بإجماع العلماء

_________

18 – هدي الساري : ص :16.