ألقى الدكتور المصطفى زمهنى درسا من الدروس الحديثية البيانية تحدث فيه عن بعض القضايا التي ينبغي تدارسها من أجل فهم السنة النبوية الشريفة فهما صحيحا ورشيدا، مشيرا إلى أن أهم ما ميز عمل المحدثين تلك الدقة الشديدة، وذلك الضبط الذي كان لهم مع نصوص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد استفرغوا وسعهم وجهدهم من أجل التمييز بين صحيح الأخبار وسقيمها رغبة منهم بأن يكون النص صحيحا سليما كما قاله صاحبه محمد صلى الله عليه وسلم، وللتمثيل على ذلك تمت مدراسة مبحث الحديث الضعيف، باعتبار أن هذا الموضوع موضوع مهم يحتاج إلى كثير تأمل وتدبر.
تعريف الحديث الضعيف
الحديث الضعيف هو ما فقد شرطا من شروط الصحة، وهي العدالة والضبط واتصال السند وعدم الشذوذ وعدم العلة، فإذا اختل شرط من هذه الشروط يكون حديثا ضعيفا، وقد تحدث عنه العلماء وأوصلوه إلى تسعة وأربعين نوعا كما قال الحافظ العراقي نقلا عن الإمام البستي.
حكم الحديث الضعيف
انقسم العلماء في الحكم على الضعيف إلى ثلاث فرق:
- الفريق الأول: يقول إن الحديث الضعيف حجة يعمل به.
- الفريق الثاني: يقول إن الحديث الضعيف ليس بحجة ولا يعمل به.
- أما الفريق الثالث: فيقول بأن الحديث الضعيف إنما يعمل به في فضائل الأعمال، لكن بشروط، منها:
- ألا يكون الحديث شديد الضعف.
- أن يكون هذا الحديث مندرجا تحت أصل عام من الأصول الشرعية.
- أن يكون الراوي عند روايته غير جازم بنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يرويه بصيغة التمريض كروي أوقيل...
وهذه الأقوال إنما قالها علماؤنا في الحديث غير المنجبر أو غير المعتضد، أما إذا كانت هنالك شواهد أو كانت له متابعات، فإن الحديث عن الضعيف يكون من خلال وجهة أخرى يتقوى وينجبر بها، ومنها:
- الشواهد والمتابعات، إما أن تكون المتابعة من الراوي نفسه، فتكون المتابعة تامة، أو من شيخه أو من فوقه، فتكون المتابعة قاصرة.
- ويتقوى كذلك الضعيف ويستند إليه في قضية ما بما يشهد له من قول الصحابي أو فعله.
- كذلك يتقوى إذا تلقته الأمة بالقبول، أو ما يكون من باب الإجماع،
- وقد يتقوى كذلك بما يكون من قبيل النصوص العامة، من قرآن أو سنة صحيحة.
مثال تقوية الحديث الضعيف وارتقاؤه إلى مرتبة القبول
الحديث الأول: معتضد بما شهدت له النصوص من القرآن أو السنة الصحيحة، والذي أخرجه الإمام ابن ماجه في سننه فقال: حدثنا بشر بن هلال الصواف حدثنا داود بن زبرقان عن بكر بن خنيس عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حجره، فدخل المسجد فإذا هو بحلقتين، الأولى يقرؤون القرآن ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويعلمون، فقال صلى الله عليه وسلم: "كل على خير، هؤلاء يقرؤون القرآن ويدعون الله، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون ويعلمون، وإنما بعثت معلما"، فجلس معهم"، هذا الحديث في أصله ضعيف، وقد ضعفه العلماء بالنظر إلى صفات وأحوال بعض الرواة الذين وردوا في سنده، ومنهم داود بن زبرقان الذي ضعفه أهل الجرح والتعديل، وكذلك عبد الرحمن بن زياد الذي جرحه العلماء، وكذلك بكر بن خنيس الذي قال فيه العلماء بأنه ضعيف، فهذا الحديث ضعيف لكنه وردت أحاديث أخرى ونصوص عامة تشهد لمعناه، من ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أبعث معنتا ولا متعنتا ولكن بعثت معلما ميسرا"، فهذا الحديث الصحيح أشار إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله معلما وميسرا، وإذا تأملنا آيات القرآن الكريم نجد أن الله عز وجل ذكر في كتابه العزيز أن من مقاصد النبوة مسألة التعليم، قال تعالى: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (الجمعة: 2)، كما أن أول كلمة أنزلت على رسوله "إقرأ"،و قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا" ، وكذلك الحديث الذي رواه الإمام مالك في الموطأ في ذات الموضوع، فتبين من هذه النصوص العامة التي فيها من الرسائل واللطائف ما يبين أن الله بعث الرسل ليعلموا الناس وليخرجوهم من الظلمات إلى النور، فهذا الحديث وإن كان ضعيفا مردودا في أصله، فإن نصوصا أخرى قوته وعضدته، فأصبح صالحا للعمل به، والاستشهاد والحكم به، داخلا في دائرة الحديث المقبول، وقد سمي عند بعض العلماء بالحسن لغيره.
الحديث الثاني:معتضد بما تلقته الأمة بالقبول فصار عليه العمل، هذا الحديث ورد في جامع الترمذي، وقبل أن نذكره لابد من التمييز بين الجامع والسنن؛ قال العلماء بأن الجامع هو الذي يكون مرتبا على الأبواب، ويكون متضمنا لموضوعات الدين الثمانية (العقائد والأحكام والسير والآداب، والتفسير والفتن وأشراط الساعة والمناقب)، ولذلك سمي كتاب الترمذي بالجامع.
أما كتاب السنن: فهو الكتاب الذي يكون مرتبا على الأبواب الفقهية، مرتكزا فيما تضمنه على الأحاديث المرفوعة خاصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على عكس الموطآت التي تكون هي الأخرى مرتبة على أبواب الفقه، لكنها لا تقتصر على المرفوعات فحسب بل تتعداها إلى الأحاديث الموقوفة والمقطوعة؛ أي إنه يتضمن الأحاديث والآثار.
والحديث الذي ورد في جامع الترمذي هو: حدثنا علي بن حجر حدثنا عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدا فليقض"، هذا الحديث بالنظر إلى سلسلة الرواة الموجودة فيه، كلهم عدول وثقات، ورغم صحة سنده إلا أن العلماء ذكروا عللا لهذا الحديث، تناقشوا فيها، نذكر منها علة واحدة، وهي المتعلقة بتعارض الوقف والرفع في الحديث؛ فهناك من جعله موقوفا، وهناك من قال بأنه مرفوع إلى النبي صلى عليه وسلم، فهو معلول عند البعض من هذه الزاوية، ومنهم الإمام البخاري الذي قال عنه لا يصح، بينما عليه العمل عند الإمام الترمذي، لأن الأمة تلقته بالقبول، والمقصود بالأمة العلماء.
ومن العلماء الذين قالوا بحكم هذا الحديث ووافقوا عليه، الإمام علي وأبو حنيفة والإمام مالك والشافعي وكذلك الإمام أحمد في رواية عنه، وكذلك الإمام ابن إسحاق، بل إن ابن المنذر حكى على أنه من استقاء عمدا فليقضي، إذن، فهذا الحديث رغم كونه ضعيفا لمجموعة علل كما سبق ذكره، إلا أنه أصبح منجبرا ومعتضدا أو حسنا لغيره؛ لأن الأمة تلقته بالقبول، ومن تم يكون صالحا للعمل به حتى في مجال الأحكام، وقد أشارت مجموعة من الكتب إلى هذا النوع من الأحاديث، منها جامع الإمام الترمذي الذي كان يقول فيه: "عليه العمل".
يتبين إذن أن علماءنا نظروا إلى السند كما نظروا إلى المتن، كما أنهم وسعوا دائرة نظرهم للرؤية المتكاملة الشاملة التي تستحضر النصوص الشرعية الأخرى، من قرآن أوسنة، والتي تستحضر كذلك مقاصد الشريعة من أجل أن تكون الإحاطة بالحديث الواحد إحاطة شاملة متكاملة.
ليختم الدكتور درسه بقوله: إنه يخطئ اليوم من يزعم أن الحديث الضعيف ليس عليه العمل مطلقا، وأن الصحيح عليه العمل مطلقا، وإنما لابد من هذه الموازنة، ومن هذه الرؤية المتكاملة التي تعطينا الميزان الصحيح للتمييز بين الأخبار والمرويات من جهة، وبين الأحاديث فيما يكون صالحا للعمل به وما لا ينبغي العمل به من جهة ثانية.
ذ. المصطفى زمهنى