صيانة حديث الرسول الأمين برعاية أمير المؤمنين

نضر الله امرءا سمع منا حديثا فأداه عنا كما سمعه فإنه رب حامل فقه غير فقيه": موضوع درس حسني"
0
الدروس الحسنية التي تلقى بين يدي أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أعزه اللهالدروس الحسنية التي تلقى بين يدي أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أعزه الله

 

الدرس الحسني الثالث للعام 2019/1440 ألقاه بين يدي أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أعزه الله يوم الإثنين 14 رمضان 1440 (20 ماي 2019) الأستاذ محمد بنكيران عضو المجلس العلمي المحلي للعرائش، متناولا بالدرس والتحليل موضوع : "صيانة حديث الرسول الأمين برعاية أمير المؤمنين" انطلاقا من الحديث الشريف : "نضر الله امرءا سمع منا حديثا فأداه عنا كما سمعه فإنه رب حامل فقه غير فقيه".

نص الدرس الحسني : "صيانة حديث الرسول الأمين برعاية أمير المؤمنين"

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيئين، سيدنا محمد الرسول الأمين، وعلى آله وصحابته والتابعين.

مولاي أمير المؤمنين،

شهدت أمتكم المغربية هذا العام، وشهد الناس حيثما بلغهم الإعلام، أنكم أمرتم العلماء بإحياء برنامج أطلقَتْ عليه جلالتُكم اسم "الدروس الحديثية لإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم"، برنامج دشنتموه بعنايتكم، وأعطيتم التوجيه بما يجب أن يكون عليه، حتى يؤدي مهمته في توعية الناس بعظمة الحديث وحرمته، وواجب الأمة في حمايته من الجهل والكذب والاستعمال الفاسد والمتطرف.

ومَن غيرُكم يا مولاي، أولى بحماية هذا الحمى، وقد صارت جهات كثيرة تحاول العبث به واقتحامَ صرحه المتين.

وسنتكلم في هذا الدرس بعد إذنكم الشريف عن بعض موجبات الغيرة الدينية التي صدرت عنها مبادرتُكم، سواء فيما يتعلق بمكانة الحديث في دين الأمة، أو في ما يتعلق بالمآلات التاريخية التي أفضى إليها التعامل معه، أو بما يضطلع به البرنامج الذي ابتكرتموه من أجل تدارك التقويم بما ينبغي في هذا الموضوع من الرد إلى الجادة بإسداء النفع العميم.

 مولاي أمير المؤمنين،   

إن سنة جدكم المصطفى صلى الله عليه وسلم لها في الدين قدر كبير، ولها عند المسلمين ما يوازي هذا القدر من الإجلال والتعظيم، وذلك اعتبارا لما لها من الخصائص المميزة والوظائف الجليلة.

فهي معبر الوحي الواصل لأهل الأرض بالسماء، ومفتاح الاطلاع على مكنوناته وأسراره الغراء، قال حسان بن عطية: "كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن".

وهي مصدر المعرفة الحقيقية والشاملة، بما تكشف عنه من الغيوب والحقائق والعلوم، وبما تفتح من الآفاق الواسعة للمعارف والفهوم.

وهي الطريق الدالة على الله، والموصلة إليه، والهادية إلى ما أراده ودعا إليه من المقاصد المستقيمة الكريمة، والمعاني السوية الحكيمة، كما يدل على ذلك قوله عز من قائل: "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله".

وهي المبينة والمفسرة للقرآن الكريم، على نحو جعل آياته ومجموع بصائره واقعا حيا يراه الناس ويعيشونه، من خلال الأقوال والأفعال والأحوال النبوية، فكانت بذلك المصدر الذي لا غناء للناس عنه.

وهي الممدة بالأحكام والتشريعات المطابقة لمراد الله، مصداقا لقوله تعالى: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"، وقوله سبحانه: "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي". وهي مجمع الفضائل المزكية للنفوس، والمرقية للأرواح، في معارج الطهر والصفاء، بما هي مجلى الصفات الإلهية والأسماء.

وهي المعيار والمرجع للأخلاق والآداب المرضية، مصداقا لقوله تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم".

وهي باب الدخول إلى الحضرة الربانية، إذ لا يصح دخول إلا منها، كما قال القائل:

وأنت باب الله، أي امرئ      وافاه من غيرك لا يدخلُ

باتباع السنة يتحقق القرب والحظوة من رب العالمين

وباتباعها يتحقق القرب والحظوة من رب العالمين، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما يُدخِل إلى ربه من حيث أدخله الله إليه، وهو بعض معاني قوله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم".

قال الإمام الجنيد رحمه الله: "الطرق كلها مسدودة إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتبعين سنته وطريقته، فإن طرق الخير كلَّها مفتوحة عليه، كما قال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة".

بهذا المقدار، نَظَر إلى السنة عامةُ علماء الأمة وأعلامها، الذين ما منهم أحد إلا وهو آخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، متبع لهديه وبيانه، كل في مجاله وميدانه، وقد أشار إلى هذا ابن البنا السرقسطي فقال:

 تبعه العالم في الأقوال            والعابد الناسك في الأفعال

وفيهما الصوفي في السُّباق             لكنه قد زاد بالأخلاق

التبليغ وصورته وشروطه

في ضوء كل هذا إذن، نفهم لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على نشر سنته، ويحض على رواية أحاديثه وآثاره، فيقول: "بلغوا عني ولو آية"، ويقول: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب".

ثم بيَّن عليه الصلاة والسلام كيفية هذا التبليغ وصورته وشروطه، فدعا إلى الاحتياط التام فيه، والالتزام الدقيق بالألفاظ المسموعة منه، من غير تصرف ولا اجتهاد، فقال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه: «نضَّر الله امرءا سمع منا حديثا فأداه عنا كما سمعه، فإنه رب حامل فقه غير فقيه، الحديث» أخرجه أبو داود والترمذي في سننيهما، وابن حبان في الصحيح، وأحمد بن حنبل في المسند، وهو بهذا اللفظ عند الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.

وهو حديث صحيح مشهور، له مخارج كثيرة متعددة عن جماعة من الصحابة، منهم عمر وعثمان وعليٌ ومعاذ بن جبل وابن عمر وابن مسعود وأنسٌ وابن عباس وأبو هريرة، وكثير غيرهم، حتى عد لأجل ذلك من المتواتر.

وقوله "نضر الله امرءا" هو دعاء منه صلى الله عليه وسلم بحسن الوجه والحال في الدنيا، والمجازاةِ بنعيم الجنة ونضارة أهلها في الآخرة، وهو دال على مقدار العناية بالسنة وعظم أجر المشتغل بروايتها.

قال سفيان بن عيينة رحمه الله: "ما من أحد يطلب الحديث إلا وفي وجهه نضرة لهذا الحديث".

وقوله: "سمع منا حديثا فأداه عنا كما سمعه" هو القيد الذي عُلِّق به الدعاء، وهو الغاية في الضبط والتحري، "كما سمعه" من غير تبديل ولا تحريف، ولا حتى أدنى تصرف يمكن أن يغير المعنى أو يوجهه توجيها ما، بناء على فهم معين من الناقل الذي قد يكون فاقدا للأهلية الفقهية، أو محصلا لمستوى أقل من المبلَّغ، فيحول بينه وبين المعنى الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبغض النظر عما ذهب إليه بعض العلماء اعتمادا على هذا الحديث من منعهم الرواية بالمعنى، واختلاف آرائهم في ذلك، مع اتفاقهم وإجماعهم على عدم جوازها للجاهل بمعنى الكلام، وموقع الخطاب، ودلالات الألفاظ، فإن هذا الحديث هو في حقيقته تنبيهٌ صريح منه عليه الصلاة والسلام على ضرورة ابتناء الرواية على العلم والتبصر، وعلى وجوب التفقه فيها، وتوجيهٌ إلى التعامل مع الحديث على أساس النظر في دلالاته، واستنباط معانيه، وتدبر مقاصده ومراميه.

فلأجل ذلك أقام المسلمون أمر روايتها على مبدأي الضبط والتفقه، وشددوا في ذلك بما لا مزيد عليه.

وإنما كان هذا منهم استجابةً بالدرجة الأولى لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في موضوع الرواية، ثم تفاعلا مع وضعها الذي اعترته ظروف وملابسات جعلتها عرضة للكذب والافتراء في زمن مبكر نسبيا، وهو معطى لا يخلو من إيجابيات وفوائد، لأنه كان سببا في انتباه العلماء للأمر في تلك المرحلة التي كان جيل الصحابة فيها لا يزال على قيد الحياة، وهم الحلقة الرابطة بين النبي صلى الله عليه وسلم والأمة.

وقد تولَّدت عن هذا الانتباه هبَّة عظيمة بدافع حماية بيضة السنة النبوية من عبث العابثين، وانتحال المبطلين، أسفرت عن جملة من الإجراءات التي تميزت بأمور وسمات منهجية دقيقة، منها: السرعة في الفعل، والاستباق المانع من استفحال الآثار المخلة، واختيار الإجراءات المساوقة لخطورة الظاهرة والملائمة لمستواها، واستجماع كل العناصر الضرورية والضامنة لتحقيق المقاصد والغايات المرجوة.

فكان أول ما بدأوا به هو شد الرحلة إلى كل مصر أو بلد به رواة الحديث وحفاظه من الصحابة وغيرهم، وذلك لتحصيل ما في الصدور والسطور من السنن النبوية الشريفة.

وتم وضع الديوان الشامل للسنة النبوية على يد ابن شهاب الزهري أحد شيوخ الإمام مالك، في ظل الاستعانة بكل الحفاظ والعلماء في سائر الأمصار الإسلامية.

وبدأت المطالبة بالإسناد على نحو إلزامي لضمان الاتصال بالرواة المؤهلين للتحديث، ممن يقع الاطمئنان لروايتهم ويغلب على الظن صدقهم وإتقانهم.

وبناء على هذا الإسناد وقع تتبعُ الناقلين للحديث، وتحديدُ شروط قبولهم من حيث العدالةُ والضبط، وبيانُ أوصافهم ومراتبِهم في الرواية، وإجراءُ أحكام الجرح والتعديل عليهم، بشكل هو غاية في الدقة والصرامة.

حتى آل الأمر في النهاية إلى نشوء علم متكامل الأركان هو علم النقد الحديثي، المشتملُ على مستويات عميقة جدا في البحث، لم يسبق لها نظير في مجاله، حسبما شهد بذلك المتخصصون والدارسون.

وظل التفقه معلما رئيسا من معالم الانتساب للمجال، كما كان في الصدر الأول، على اعتبار أن السنة مكون من مكونات الصناعة الفقهية، ومرتكز من مرتكزاتها، وذلك حذرا من أن يقع الاستقلال بالحديث دون الفقه.

ونذكر هنا بأن أشهر من عرف بالتشدد في هذا الأمر في الأزمنة الأولى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان يمنع من الإكثار من الرواية والتحديث اتقاء لمحاذير تتعلق بالتفقه بالدرجة الأولى، بحيث كان يخشى أن تصل للناس أحاديث يصعب عليهم  فهمها فيحملونها على غير وجهها، أو يأخذون بظاهر لفظها في غياب ما يسدد فهمها من أحاديث أخرى.

هذا، وقد انخرطت المرأة في هذا الشرف، وكان لها حضور كبير، وإسهام غني ووفير، فكانت راوية حافظة، ومتفقهة وناقدة، وكان حضورها على مستوى كل الطبقات بدءا من جيل الصحابيات، ومرورا بالأجيال المتعاقبة، ووصولا إلى رواية المصنفات المشهورة والأصول المعتمدة.

وقد بلغ عدد الصحابيات التي وردت لهن أحاديث في مسند بقي بن مخلد على سبيل المثال مائتين وست عشرة صحابية.

وعدد الروايات عن التابعيات بجميع طبقاتهن في الكتب الستة هو في حدود مائة وثلاث روايات.

ومجموع روايات النساء في الكتب الستة بشكل عام هو ألفان وسبعمائة وأربع وستون رواية.

والجدير بالذكر أن المدونات الحديثية سجلت لنا سنناً وأحاديث لا تعرف إلا من رواية النساء، فكانت بذلك مرجعاً في موضوعها ومادتها.

وللمرأة خاصية استثنائية في هذا المجال لم توجد في الرجال، وهي أن هؤلاء وجد فيهم المتهم والضعيف والمردود، وليس في الراويات إلا الصادقات المقبولات كما قال الإمام الذهبي رحمه الله: "وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها".

وتمثل المحدثون في اشتغالهم بالسنة أعلى درجات التحقق بالأخلاق المؤهلة للانتساب لهذا المجال الشريف، وكان الواحد منهم كما قال سفيان الثوري يتعبد عشرين سنة، ثم يكتب الحديث.

وكانت علاقتهم بهذا المصدر العظيم تقوم على أساس الإجلال الكبير الذي يكنونه لصاحبها عليه الصلاة والسلام، وهذا مالك رحمه الله كان إذا ذَكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه.

وكان إذا أتاه الناس خرجت إليهم الجارية فتقول لهم: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل؟ فإن قالوا المسائل، خرج إليهم، وإن قالوا الحديث، دخل مغتسله واغتسل وتطيب ولبس ثيابا جددا، ولبس ساجه، وتعمم، ووضع على رأسه رداءه، وتُلقى له منصة، فيخرج فيجلس عليها وعليه الخشوع، ولا يزال يتبخر بالعود حتى يَفْرُغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولما قيل له في ذلك قال: إني أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنا.

وكان رحمه الله يكره أن يحدث في الطريق أو وهو قائم أو مستعجل، ويقول: أحب أن أفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد نال المحدثون بذلك قدرا كبيرا من الاحترام والتقدير من لدن العلماء، وكانت لهم على سائر التخصصات سبق وحظوة، بينها الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه "شرف أصحاب الحديث"، وفيه يذكر عن الشافعي أنه كان يقول: "إذا رأيتُ رجلا من أصحاب الحديث، فكأني رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم حيا"، وعن سفيان الثوري قولَه: الملائكة حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض".

وذلك لما تجشموا من عناء تحمل أمانة الصيانة لحديث جدكم المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم.

مولاي أمير المؤمنين،

إن هذه الصورة الرائعة للوضع الذي كانت عليه السنة الشريفة قد أعقبتها متغيرات كثيرة، اقتضت كثيرا من التطوير في إجراءات خدمتها مما تقدم ذكره، بحيث صار الاشتغال بالحديث عند أهل السنة والجماعة يسفر في كل مرحلة عن مستويات أعمق وأوسع وأنضج في البحث والتنقيد، مع الالتزام التام بالموضوعية وقواعد المنهج.

فكان أن انتقل العلماء من التدوين الشمولي إلى التصنيف بحسب الموضوع، الذي كان الإمام مالك أحد رواده الكبار بكتابه الموطأ، الجامعِ بين صرامة النقد الإسنادي ودقيق النظر الفقهي الاستنباطي، المؤسس على قواعد فقه أهل المدينة المنورة.

وهو الكتاب الذي يصفه الإمام الشافعي بقوله: "ما كتابٌ أكثرُ صوابا بعد كتاب الله من كتاب مالك".

وتكاثرت المصنفات بعد ذلك في شتى الربوع آنذاك، على أساس ما وقع من تأصيل وبلورة للإسناد، ومزيد ترسيخ وتقعيد لقضاياه وفروعه، ليسفر الأمر في النهاية عن مؤلفات هي أشبه بالموسوعات الضخمة، الموضوعة بأبعاد استراتيجية، تروم كفاية الأمة في قضايا السنة لآماد طويلة، وذلك بناء على وعي واضح ورؤية لاحبة لدى مؤلفيها. والدليل على ذلك ما صرح به الإمام مسلم رحمه الله في حق كتابه الصحيح حيث قال: "لو أن أهل الإسلام يكتبون الحديث مائتي عام لكان مدارهم على هذا المسند".

ولكن الأمر لم يبق محصورا في صحيحه فقط، ولا في المدة التي ذكرها وهي مائتا عام، وإنما شمل عموم المصادر والأمهات التي استمرت لها نفس المكانة والقيمة إلى يوم الناس هذا، فكتاب الموطأ والصحيحان للبخاري ومسلم والسنن الأربعة المكملة للكتب الستة كلها كتب كانت وستبقى عمدة الإسلام، ومحور المعرفة عند المسلمين، وعليها المدار في كل شأن من شؤونهم.

أجل، إن هذه الكتب الثلاثة الموطأَ وصحيحي البخاري ومسلم تمثل قمة الإبداع الذي تفتقت عنه عبقرية المحدثين، وهي تصنف في المراتب الأولى من مجموع كتب الحديث، اعتبارا لرسوخ أصحابها وعلو كعبهم في هذا الميدان، ثم بسبب اتفاق كلمة النقاد على تصحيح ما تضمنته من الحديث.

وهي تحظى من وقتها وإلى الآن بالقبول والإجلال والتعظيم.   

إن تاريخ السنة المشرفة -يا مولاي- ليدل على مدى اليقظة التي تحلى بها العلماء في دفاعهم عن هذا المصدر العظيم بالشكل المناسب والصارم، حيث كانوا يقفون بالمرصاد أمام أي تحد يقف في وجهها وأي شكل من أشكال العبث بها، أو المس بقدسيتها.

ويمكن حصر هذه التحديات من ذلك الوقت وإلى الآن في ثلاث ظواهر رئيسة، هي:

الأولى: ظاهرة الكذب والوضع والتزوير.

وهي ظاهرة كانت تقف وراءها تيارات مختلفة، منها: الزنادقة وأعداء الدين، ومنها أهل الأهواء والنحل الخارجون عن مذهب أهل السنة والجماعة، ومنها تيار المذاهب العقدية، وتيار المذاهب الفقهية، وتيار التعصب للجنس أو القبيلة أو اللون، ثم سائر أصحاب الأغراض والمصالح الدنيوية والوعاظُ والقصاص.

ويعد الروافض وهم فرقة كانت ترفض خلافة أبي بكر وعمر أكثر هذه التيارات كذبا في الحديث كما قال الشافعي: "لم أر أحدا من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة"، ولعل أهم الأسباب لذلك انخراطُ كثير من أعداء الدين في صفوفهم.

وقد كان لكل تيار من هذه التيارات دوافع يتراوح مجملها بين الديني والمذهبي والسياسي والاجتماعي والتجاري.

لكن الآثار والنتائج كانت خطيرة جدا، حيث وجدت أحاديث موضوعة في مختلف الموضوعات، احتاجت ولا تزال إلى نقد علمي صحيح وعميق.

الظاهرة الثانية: ظاهرة التشكيك في السنة والتشويش على مرتبتها في الدين، وذلك من خلال الهجومِ على رموز الحديث النبوي ورواته عند أهل السنة والجماعة من الصحابة خاصة كأبي هريرة وعائشة، والانتقاصِ من مصادر السنة الصحيحة المشهورة ولاسيما الجامع الصحيح للإمام البخاري رحمه الله، والطعنِ في تاريخها ومناهج تدوينها، وادعاءِ وجود الخلل في طرائق توثيقها.

وهي ظاهرة لم تعرف التوقف على مر التاريخ وإلى يومنا هذا، تبنتها في القديم تيارات مختلفة أشهرها المعتزلة، وتبنتها في عصرنا الحالي تيارات أخرى بعضها ينحدر من الروافض، ثم بعض التيارات التي ترفع شعار القرآنيين.

ولهذه الظاهرة من الآثار السيئة على السنة ما لا يقل عن السابقة، فهي تزعزع ثقة المسلمين في الحديث الشريف، وتفتح الباب على مصراعيه للمتجرئين على حرمتها، والخروج عن الجماعة فيما تعتقده من قدسيتها.

الظاهرة الثالثة: ظاهرة التضخيم والتحنيط، واعتماد الإسناد وحده، وإهمال النقد المتعلق بالمضمون، بحيث إذا صح السند وجب العمل به مطلقا، من غير مقابلة بالقرآن الكريم ولا ببقية الأحاديث أو بالقواعد الشرعية المقررة، أو بالحس أو بالتاريخ أو بغير ذلك من الأمور التي نبه عليها العلماء.

وقد ظهر هذا على يد بعض التيارات التي حرَصت على أن يكون أمر التصحيح والتضعيف في يد شخص واحد، بحيث يكون ما حكَم به هو المعتمد، حتى ولو كان مخالفا لما قاله كبار الأئمة، مع أن الحكم على الأحاديث كان في جميع المراحل جماعيا، وكانت العادة أن يعرض المؤلف كتابه على عدد من شيوخ العلم وأئمته فلا يخرجه إلا بعد أن يجيزوه.

ولقد كان لهذه الظاهرة نتائج وخيمة على وضعية الدين، وأفكار المسلمين، نذكر منها:

أولا: التبخيس للقواعد والأصول التي سار عليها الأئمة في التعامل مع السنة، وتضييع إرث كبير ومجهود عظيم في هذا المجال، وإعطاء الشرعية لتيار اللامذهبية الذي يريد إقصاء المذاهب الفقهية.

ثانيا: الاحتجاج بأحاديث ليس عليها العمل، ومنع العمل بأحاديث سبق للأئمة العمل بها بدعوى أنها ضعيفة، وإلغاء أحكام شرعية كثيرة مما توارد عليه العلماء.

ثالثا: إيقاع الناس في اللبس والاضطراب جراء التعامل مع الحديث بغير فقه، وترك المجال واسعا للإشكالات المحيرة، والمعاني غير المفهومة.

رابعا: انتزاع المرجعية النقدية وما يتصل بها من المرجعية العقدية والفقهية من أصحابها الحقيقيين، واستباحة المجال ليقتحمه من ليس له بأهل.

خامسا: وجود نزوعات تحزبية تفرق الأمة وتزعزع الجماعة عن طريق الانتساب للحديث.

هذا، ومما زاد من استفحال السلبيات المتعلقة بهذه النتائج وجودها في زمن الإنترنيت، حيث وقع استغلال العديد من المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي لبث الأفكار المنحرفة وزعزعة ثوابت الأمة بخصوص السنة النبوية ومصادرها ورموزها وتاريخها، ونشر الأحاديث الموضوعة لأهداف غامضة غير مفهومة.

أمام هذا الوضع المختل المشين، ودرءا للفتنة والتشويش في الدين، وحماية وترسيخا للثوابت والوحدة الدينية للمسلمين، قمتم -يا مولاي- بما رأيتموه واجب الوقت في هذا الموضوع، فوضعتم هذا المشروع العلمي والعملي الرائد برنامج "الدروس الحديثية لإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم"، وأوكلتم تأطيره إلى ثلة من العلماء والمتخصصين، وأمرتم بأن يبث في قناة محمد السادس للقرآن الكريم (السادسة) وعلى أمواج إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، وعلى شبكة الأنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي، وأبيتم إلا أن تعطوا انطلاقته بأيديكم يوم الجمعة 23 صفر 1440 الموافق 2 نوفمبر 2018.

"الدروس الحديثية لإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم": سبق في هذا المجال وفي هذا الزمن، يواجه التحديات الراهنة بالأساليب اللائقة والأدوات المطلوبة.

وجعلتموه محكم التصور والبناء، متكاملا من حيث الرؤية والإجراء، غايته رفع اللبس والإشكال، والوقوف بشكل عملي ضد محاولات التحريف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته المطهرة، على أساس رد الأمر إلى نصابه، وإعمال النظر العلمي الهادئ في النصوص الحديثية بناء على ما قعده العلماء، وعلى ما يقتضيه الفقه الصحيح.

ولتحقيق هذه الغايات على أحسن وجه، جعلتموه على شكلين اثنين، الأول: شكل الدروس التوجيهية البيانية، وفيه يختار العالم نماذج من الحديث مختلفة الدرجة في الصحة والقبول، فيتناولها بالتوضيح والشرح.

والشكل الثاني هو الدروس التفاعلية وتكون من تقديم أحد العلماء بمعية منشط يتلقى من خلالها أسئلة المشاهدين والمستمعين ويجيب عنها.

وقد أمرتم بتوفير كل ما يتطلبه نجاح البرنامج من توظيف الوسائل الممَكِّنة من استقبال الأسئلة على مستوى البرامج التفاعلية.

وجعلتم بين يدي ذلك دروسا تمهيدية عامة تطرقت للمنهج الصحيح في أخذ الحديث النبوي، المأخوذ من الصحابة والأئمة من بعدهم، وخاصة الإمام مالك وطريقة تعامله مع الحديث الصحيح.

واهتمت كذلك ببيان منهج العلماء في جمع الحديث وتدوينه وتصنيفه، وبالأدوار السيئة لأهل الفرق والأهواء، وعبثهم بالحديث، وبعناية ملوك المغرب بالحديث الشريف، وكذا باهتمام علماء المغرب بالحديث الشريف، وبالحديث الشريف في وسائل التواصل الاجتماعي في الوقت الراهن.

 مولاي أمير المؤمنين،

إن لهذا البرنامج آفاقا مهمة جدا على مختلف الأصعدة، ومنها:

أولا: أداء واجب الأمانة الملقاة على عاتقكم بوصفكم أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين.

ثانيا: وضع الإشكال على صعيد الإعلام وذلك للتمكن على أحسن الوجوه من تنبيه ذوي النيات الحسنة لما يحيط بالسنة من المخاطر، وإقامة الحجة على المغرضين والمتلاعبين.

ثالثا: العمل على جعل هذا الموضوع أمانة كبرى تقع على عاتق الأمة جمعاء، وتحفيز الجميع للانخراط في تحمل مسؤولياتها.

وهكذا تكونون يا مولاي قد أحللتم السنة محلها المعهود عندكم من الإجلال والاحترام والتعظيم، وبنيتم معالم صحوة جديدة في موضوع السنة، تجعل قضية الاهتمام بها دراسة ونقدا وتفقها تنبثق وتحيا من جديد، على أساسٍ مكين ومنهج متين.

ومن شأن ذلك أن يرسم للعلماء في مملكتكم الشريفة خارطة طريق للتعامل مع السنة النبوية، يتبيَّنون من خلالها طرائق الاشتغال، ومناهج الفهم، وأساليب النظر والاستدلال.

وأنتم مشمولون في ذات الوقت بفضل الله عز وجل بدعاء جدكم المصطفى صلى الله عليه وسلم بنضارة الوجه والحال في الدارين، بهذا السعي المبارك منكم، لتحقيق مقصود الحديث بهذه الكيفية الرفيعة.

وليس هذا يا مولاي إلا جزءا من نسق فكري متكامل يطبع مساركم الشريف في حماية الدين وصون ثوابته ومرتكزاته، على نحو أصبح به تدبيركم للشأن الديني يحظى بالاهتمام والإعجاب على المستويين القاري والدولي، تعكسه عنايتكم المولوية السامية بكل شأن من شؤونه التي من بعض معالمها عنايتكم بالمجالس العلمية التي تشرُف برئاستكم الفعلية، واهتمامكم الكبير بالكراسي العلمية وأساسها الحديث وعلومه، وإنشاؤكم لمعهد محمد السادس للأئمة والمرشدين والمرشدات، وتشريفكم للمشتغلين بالحديث بالجوائز القيمة والمشجعة للنهج الذي يخدم هذا المصدر العظيم من مصادر الدين.

ولا تزال مآثركم وأفضالكم في هذا الشأن تتلألأ، ولا يزال إبداعكم في ازدياد وتألق.

على أن هذا النهج هو النهج الذي كان عليه أسلافكم الأماجد من ملوك الدولة العلوية الشريفة الذين اشتهروا بالعناية بالحديث النبوي، وتعظيم مصنفاته ومصادره، ولاسيما صحيح الإمام البخاري رحمه الله، الذي رسَّموا قراءته وسرده في المحافل العلمية ليختم في ليلة السابع والعشرين من رمضان كل سنة على النحو الذي تقومون به في مجلسكم الموقر.

وهذا النهج أيضا هو نهج والدكم المنعم جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه، الذي أنشأ هذه الدروس الحسنية الرمضانية المنيفة وسنها؛ لمدارسة الأحاديث الشريفة من لدن علماء من شتى الأقطار والبلدان، وترسيخ ثقافة الارتباط بالسنة النبوية الغراء المطهرة.

ثم قام بتأسيس معهد خاص لخدمة السنة النبوية هو دار الحديث الحسنية التي هي بركة من بركات الدروس الحسنية، أشرفت منذ تأسيسها إلى الآن على تخريج علماء متخصصين ينفون عن الحديث كما قال جدكم المصطفى صلى الله عليه وسلم تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

هو امتداد شريف إذن يا مولاي، عملتم على ترسيخه وتطويره وجعله مواكبا للعصر، متفاعلا مع هموم الأمة وقضاياها.

حفظكم الله يا مولاي أمير المؤمنين بما حفظ به الذكر الحكيم، وأدام عزكم ونصركم، وجعلكم حماة لهذا الدين، ولسنة جدكم المصطفى الأمين، وسدد خطاكم على هذا الدرب بمزيد من التوفيق والعزم واليقين.

وأقر عينكم بولي عهدكم الأمير مولاي الحسن، وبصنوكم الأمير مولاي رشيد، وبسائر أفراد الأسرة العلوية المجيدة.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله إلى يوم الدين.

والختم من مولاي أمير المؤمنين.