سلفية الأمة والتمثلات المغربية

0

نص الدرس الرابع من الدروس الحسنية الرمضانية للعام 1436 هـ والذي ألقاه بحضرة أمير المؤمنين الأستاذ مصطفى بن حمزة، رئيس المجلس العلمي المحلي بوجدة، يوم الجمعة 09 رمضان 1436هـ الموافق لـ 26 يونيو 2015م، تناول فيه بالدرس والتحليل موضوع "سلفية الأمة والتمثلات المغربية" انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".

الدرس الحسني حول "سلفية الأمة والتمثلات المغربية" انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنه لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا؛

مولاي أمير المومنين حفظكم الله وخلد في الصالحات ذكركم، وبلغكم مما تأملون من خير لشعبكم أملكم وسؤلكم.

وبعد، فسيرا على المألوف من أن تثار في مجالسكم السنية قضايا علمية ذات أهمية مما يشغل الأمة، فإني أثير في مجلسكم السني يا مولاي، قضية لها راهنيتها وأهميتها وحساسيتها أيضا، وهي قضية مفهوم السلفية الجامعة الشاملة المستوعبة لجماهير الأمة، وما اعتراها من محاولة الاستئثار والاستفراد بها.

لذا فإن هذه المساهمة تتغيا ضبط مفهوم السلفية، وتحديد من يسمون سلفا، كما أنها تعرض للاشتراطات والمعايير التي حددها البعض من أجل استحقاق الانتماء للسلف، ومن أجل إدراك هذه الغاية، فإني أعرض القضايا التالية:

  • تعريف السلف والسلفية.
  • بحث بعض المعايير والاشتراطات لاستحقاق الانتماء إلى مذهب السلف.
  • واقع سنية المغرب وسلفيته.

من خلال دراسة جملة من تعاريف السلفية، يتبين أنها اعتمدت معيارين: أحدهما معيار زمني، والآخر معيار موضوعي.

وسوف أقتصر على إيراد مضمون المعيار الموضوعي لتحديد السلفية

 المعيار الموضوعي لتحديد السلفية

إن أوسع مفاهيم السلف والسلفية، هو ما كان يقول به أوائل العلماء من أن أهل السنة والجماعة هم كلهم سلف الأمة، ويقابلهم في الشق الآخر باقي الفرق والطوائف، من خوارج وشيعة ومعتزلة ومرجئة وغيرهم.

وتوفيرا للوقت فسوف أقتصر على إيراد تعريف للشاطبي.

يقول أبو إسحاق الشاطبي: الأقوال فيمن ينتظمهم مفهوم الفرقة الثالثة والسبعين، وهي الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة.

وأورد الشاطبي خمسة تعريفات منها:

إنهم السواد الأعظم من أهل الإسلام، وهو ما يحمل عليه كلام أبي غالب، وأبي مسعود الأنصاري، وابن مسعود، وقال الشاطبي: فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة، ومن سواهم داخلون في حكمهم، لأنهم تابعون لهم، ومقتدون بهم، فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شدوا، وهم نهبة للشيطان. 

وخلاصة هذه التعاريف أن السلفية مذهب الأمة الجامع، وأن السلف هم جماهير الأمة وسوادها الأعظم، وهم يمثلون تيارا واحدا في مقابل جميع المذاهب التي نشأت عن فهم خاص لجزئية من جزئيات الدين، ضخمتها ثم جعلتها أصلا شاملا تشكلت حوله وبسببه طائفة من الطوائف التي مزقت الوحدة العقدية للأمة.

وقد كان شمول مفهوم مذهب أهل السنة والجماعة مما أشعر الأمة بوحدتها العقدية، وهيأها لأن تنهض بوظائفها الحضارية، فرحل العلماء من جهة إلى أخرى من جهات العالم الإسلامي، وخدموا علوم الشريعة وأضافوا إليها، وكان العالم المسلم يجد في كل مكان من يرى فيه أخا لا يختلف عنه في شيء.

لكن هذه الرؤية تعرضت لخلل كبير ولتصدع عميق ولرزء فادح كان له أثره السيئ على وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم، وصرفهم عن أن يتفرغوا لوظائفهم الحقيقية، وتمثل هذا الخلل في إقامة حواجز ذهنية تمنع من انضواء جماهير الأمة ضمن رحاب أهل السنة والجماعة، وهذه الحواجز والمعايير التي نصبت ليست أحكاما توقيفية، وإنما هي آراء انتهى إليها البعض، وأعملها في وحدة المسلمين، فصاروا مزعا وفرقا هي إلى الخصومة أقرب منها إلى المودة والإخاء.

وقد أدى تحكيم هذه المعايير إلى أن ينظر بعض المسلمين عددا من كبار علماء الأمة ومن خدموا القرآن والحديث، ودافعوا عن العقيدة أنهم ليسوا سلفيين، بسبب أن معيارا معينا لم ينطبق عليهم، ومن هؤلاء أسماء كبيرة، ونجوم سطعت في سماء العلم الشرعي، ومنهم عدد لا يحصون من المفسرين والمحدثين والفقهاء وعلماء العقيدة فضلا عن علماء اللغة والبلاغة ومن إليهم.

ويكفي أن يكون منهم: عز الدين بن عبد السلام (ت660هـ)، وابن حجر العسقلاني (ت852هـ)، وأحمد زروق (ت899هـ)، والقرافي (ت684هـ)، والباقلاني (ت402هـ)، والخطيب البغدادي (ت463هـ)، وأبو الوليد الباجي (ت474هـ)،وابن عطية (ت546هـ)، وابن العربي المعافري (ت543هـ)، والقاضي عياض (ت544هـ)، وابن رشد (ت520هـ)، والقرطبي (ت633هـ)، والإمام النووي (ت676هـ). وهؤلاء هم أعمدة المعرفة الشرعية.

ومن ضمنهم علماء مغاربة كثيرون، يعرف مكانهم من العلم والتقوى والتمسك بالسنة.

وقد كان الباعث على إقصاء هؤلاء عن دائرة السلف أنهم أشاعرة، قالوا بالمجاز وبتأويل المتشابه، وهؤلاء كانوا هم جمهور الأمة وسوادها الأعظم.

إن المعايير والاشتراطات التي حددها الساعون إلى الاستئثار بالانتساب إلى السلف معايير متعددة، لكن أبرزها هو عدم الاشتغال بعلم الكلام وعدم القول بالمجاز وعدم تأويل النصوص، ثم إلقاء تهمة الابتداع على اختيارات تدينية كثيرة. والواجب الحديث عن بعض تلك المعايير بعرضها على مقررات العلم

المعيار الأول: عدم القول بالمجاز لاستحقاق الانتساب للسلف

يردد النافون للمجاز مقولة شهيرة يرونها أصلا مرجوعا إليه في تصنيف الناس إلى سلف وخلف، ويتكرر استرجاعها في كل المناسبات، ونصها: إن الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ، وبكل حال، فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة الأولى، لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم كمالك والثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة والشافعي، ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو كالخليل وسيبويه.

إن هذا النص يستدعي قراءة علمية فاحصة على ضوء واقع المعرفة وحصيلة ما كتبه علماء القرون الثلاثة مما له صلة بموضوع المجاز.

وما يستوقف النظر منه قضايا منها:

أولا: قول النص

إن المجاز هو اصطلاح حادث، حدث بعد القرون الثلاثة الأولى، ولم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، وهي إشارة إلى أنه أمر مبتدع طارئ على الشريعة، وهذا موقف غريب، لأن أكثر اصطلاحات العلوم التي تداولتها المصادر الإسلامية في جميع التخصصات هي اصطلاحات لم تكن في أكثرها معروفة ولا متداولة بين الصحابة، وإنما نشأت بنشوء العلوم التي دعت إليها ضرورات خدمة الكتاب والسنة، ففي علم القراءات القرآنية تتداول مصطلحات القراءة والرواية والوجه والطريق، ومصطلحات صفات الحروف ومخارجها، وطرق الأداء كالروم والإشمام وأحكام الابتداء والوقف ومنها الوقف الكافي والحسن والقبيح والتام، وأحكام الابتداء والقطع والائتناف وأنواع المدود، وغير ذلك من المصطلحات الكثيرة الخادمة لنص القرآن، ومثل هذا يقال عن كل العلوم الشرعية، ولا زال إنتاج مصطلحات علوم الشريعة مستمرا متواليا إلى الآن، وهي مصطلحات قد تختلف بين مدرسة فقهية وأخرى.

ثانيا: دعوى عدم قول علماء السلف بالمجاز

لقد صرح النص بأن مصطلح المجاز لم يتحدث به أحد من العلماء خلال القرون الثلاثة الأولى، وهذا يفرض موضوعيا الرجوع إلى أعمال بعض علماء السلف من رجال القرون الثلاثة الأولى.

وبالعودة إلى المصادر التي بين أيدينا يتبين أن القول بالمجاز كان حاضرا في هذه القرون في حقول معرفية شتى

المجاز عند ابن جرير الطبري

 يعتبر ابن جرير الطبري (224هـ-310هـ) شيخ المفسرين، وأحد علماء القرن الثالث، وقد تحدث عن المجاز لدى تفسيره لقول الله تعالى: ﴿ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا﴾ [ نوح: 15-16].

يقول ابن جرير كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: إنما قيل: ﴿وجعل القمر فيهن نورا﴾، على المجاز، كما يقال أتيت بني تميم، وإنما أتى بعضهم.

وما قاله ابن جرير صريح في استعمال كلمة المجاز، كما أنه صريح في أن إطلاق المجاز قديم، إذ كان أهل العربية من أهل البصرة يستعملونه، وعلى هذا فإن ابن جرير ليس أول قائل به، وإنما هو راو لما كان معروفا من المجاز عند علماء البصرة.

وهذه الإفادة نص من مفسر كبير على قدم استعمال المجاز.

المجاز عند سيبويه

لقد نفى النص أن يكون أحد من علماء النحو أو العربية قد قال بالمجاز، ونص على سيبويه تحديدا فقال: ولا تكلم به أحد من أهل اللغة والنحو كالخليل وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء.

إن هذا النفي يدفع إلى بحث قول سيبويه بالمجاز.

لقد تحدث سيبويه عن مضمون المجاز وحقيقته التي هي صرف اللفظ عن دلالته في اصطلاح التخاطب إلى دلالة أخرى تجيزها اللغة، لكن سيبويه عبر عن المجاز تعبيرا آخر فسماه توسعا في الكلام، وهو عين المجاز. يقول سيبويه: ما جاء في اتساع الكلام والاختصار قوله تعالى جده: ﴿وسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها﴾ [ يوسف: 82 ] إنما يريد أهل القرية. فاختصر وعمل الفعل في القرية كما كان عاملا في الأهل لو كان هاهنا. ومثله: ﴿بل مكر الليل والنهار﴾ [سبأ 33] وإنما المعنى: بل مكركم في الليل والنهار.

وإذا كان سيبويه لم يصرح بكلمة المجاز بالذات، وإنما عبر عن مضمونه، فإنه قد ساق مثال: وسأل القرية، ومكر الليل، وهي ذاتها الأمثلة التي يستشهد بها علماء البلاغة على وجود المجاز.

الإحالة على النصوص الدينية هو أقوى شاهد على وجود المجاز

ومع إمكان إيراد الكثير من الشواهد من أعمال العلماء الذين قالوا بالمجاز في القرون الثلاثة الأولى، فإن الإحالة على النصوص الدينية نفسها سيكون أقوى شاهد على وجود المجاز.

المجاز والتأويل في النص الشرعي

حينما نسلم بوجود المجاز، فإن ذلك يحيل حتما على القول بالتأويل، لأن اللفظ المستعمل ليس على وجهه الحقيقي، فوجب تبيين الوجه الذي به ساغ نقل اللفظ من دلالته اللغوية إلى الدلالة المجازية، ورغم وضوح وجود المجاز في القرآن وفي السنة، فإن فئة قليلة ظلت متمسكة بالقول بعدم وجود المجاز، وكان هذا القول يلجئها إلى تخريجات وتفسيرات يأباها منطق اللغة، ففي القرآن والحديث استعمالات لا تفهم إلا على سبيل القول بالمجاز، من أمثلتها قول الله تعالى: ﴿نسوا الله فنسيهم﴾. حين يقابل بقول الله تعالى: ﴿وما كان ربك نسيا﴾. وقوله تعالى: ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾. وفيه نفي وإثبات في سياق واحد. فإن كان قد رمى، فإنه لا يصح وما رميت، وإن كان لم يرم فلا يصح إذ رميت، ولا سبيل إلى فهم هذه الآية إلا بتقدير المجاز، فيكون المعنى ما رميت بقدرتك، ومن أمثلته قول الله تعالى عن طعام أهل الجنة: ﴿ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا﴾. لكن مجاهدا قال: إن الجنة ليس فيها بكرة ولا عشي، ولا ليل يعقب النهار، فيكون معنى الآية: لهم فيها رزقهم في الزمن الذي كانوا يرزقون فيه، ويأكلون فيه في حياتهم الدنيا في البكور والعشي، ومن أمثلته أيضا قول الله تعالى: ﴿وجاء ربك والملك صفا صفا، وقد تأول أحمد بن حنبل الآية فقال جاء ثوابه، وقال البيهقي: هذا إسناد لا غبار عليه.

 ومن أمثلته في القرآن قول فرعون: ﴿ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الاسباب﴾. وهامان لم يكن ليبني بيده، وإنما يأمر من يفعل ذلك، فيكون هذا مجازا عقليا.

ومن أمثلته في الخطاب القدسي قول الله تعالى لعبده يوم القيامة: "عبدي مرضت فلم تعدني". وهذا ليس على وجهه، وفسر مجازيته الحديث نفسه لما قال: مرض عبدي فلان فلم تعده.

ومن أمثلة المجاز في الحديث، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء". [البخاري، كتاب الأطعمة]

والملاحظ أنه لا فرق بين كافر ومؤمن في التركيبة الفزيولوجية للإنسان، وقد يصير الكافر مؤمنا ولا ينقص من أمعائه، وقد يقع العكس، والقصد من الحديث أن المؤمن لا يكون نهما شرها، وأن الكافر ليس له حياة روحية يجد فيها اطمئنانه، فلذلك يقبل على ما هو مادي ليعوض به ما فقده من اللذة الروحية.

ومن المجاز قول النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل". والمشاهد أن المسافات لا تطول ولا تقصر في ذاتها بين ليل ونهار، وإنما يطول الإحساس بها بأسباب نفسية.

وعلى الإجمال، فإن صيغ المجاز في القرآن وفي الحديث قد حظيت باهتمام العلماء،  فكتب العز بن عبد السلام كتابا تتبع فيه مجازات القرآن.

وما يقتضيه المنهج هو أن يكون الكلام عن الحقيقة والمجاز للمختصين في العلم وهم علماء البلاغة، مثلما أن المتخصصين في أي علم هم أولى الناس بالحديث فيه.

وخلاصة هذا المبحث أن القول بنفي المجاز، وبمنع التأويل تبعا لذلك هو قول لا تعضده الشواهد، وقد ثبت أن المجاز وجد في القرون الثلاثة الأولى، وأن من تحدثوا به قد تحدثوا باسمه الصريح كما ذكر ذلك ابن جري الطبري، أو تحدثوا عن مضمونه واستشهدوا بالأمثلة التي يسوقها البلاغيون في دراسة أنواع المجاز، لذا فإن إقصاء فئة من المسلمين عن دائرة السلف بسبب القول بالمجاز أو التأويل ليس مؤسسا على حقائق علمية، وإذا كان هذا هو مبرر إقصاء الأشاعرة، ومن ضمنهم المغاربة عن دائرة السلف، فإن ذلك المبرر لا يثبت أمام التمحيص، لأن علماء أهل السنة أولوا، ومنهم الإمام أحمد والبخاري، كما اضطر منكرو المجاز أنفسهم إلى القول به، وهو ما فصل القول فيه غير واحد من الدارسين.

النموذج المغربي في التدين

حينما نتحدث عن نموذج مغربي في التدين، فإننا لا نعدم من يستشكل أو ينكر بالمرة أن يوجد أنموذج خاص في التدين المغربي، كما لا نعدم من يتساءل إن كان بالإمكان توسيع هذه الظاهرة ليتحدث عن نماذج أخرى من التدين، وقد يكون من يستشكل معذورا بسبب عدم اطلاعه على علم أصول الفقه وواقع التشريع، وخصوصيات المدارس الفقهية مما أنجز العلماء فيه كتبا متخصصة ومستوعبة.

لكن من ينكر بالمرة لا يعذر، لأنه أخذ موقفا مسبقا عن غير تبين لواقع التشريع.

وتتأسس قضية تميز المغرب بأنموذج خاص في التدين على أصول علمية مقررة ليست موضع رفض من العلماء.

 ومن ذلك أن الفقه هو عماد التدين، وهيكله الذي يقوم عليه، وهو أيضا خريطة الطريق الموجهة للتدين، وهو منظومة المعالم التي يترسمها المتدينون.

فإذا كان الفقه هو في نفسه متغيرا بحسب موجبات موضوعية، اتفق العلماء على الحد الأدنى منها، فإن من المنطقي أن يتأثر التدين بذلك الاختلاف، وينعكس عليه في أنموذج التدين المغربي.

إن المقرر علميا أن الفقه في جانبه غير القطعي ثبوتا أو دلالة، قد يتغير بحسب دواعي عديدة، عقد لها ابن القيم فصلا في إعلام الموقعين قال فيه: (فصل في تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد).

وقالت الحنفية بتغير الفقه والفتوى بتغير الزمان فقط، وهو ما عبرت عنه كتب القواعد لديهم. 

 لكن المالكية قالوا بتغير الفقه بحسب الزمان والمكان والأعراف.

ومن أثر ذلك أن مالكية الغرب الإسلامي قد تميزوا عن باقي المدارس المالكية بالمشرق، فاعتمدوا أصل ما جرى به العمل، وهو ليس أصلا منفصلا أو شاردا، وإنما هو في حقيقته إعمال لأحد أصلين هما: أصل سد الذرائع، أو أصل تحقيق المصلحة، وسيأتي الحديث عنه قريبا.

مقومات نموذج التدين المغربي

من خلال تجميع مقومات التدين في المغرب، وتسليط الضوء على أوجه الفرادة والتميز فيه، يمكن الخلوص إلى تقرير أن هنالك فعلا أنموذجا مغربيا في التدين، ويمكن الحديث في هذا عن المقومات التالية:

  • المقوم الأول: تمسك المغرب بالمذهب السني في العقيدة والفقه.
  • المقوم الثاني: اختيار المغاربة للأشعرية مذهبا في العقيدة
  • المقوم الثالث: أخذ المغاربة بالمذهب المالكي.
  • المقوم الرابع: تميز المغرب بفقه خاص استوعبه أصل ما جرى به العمل، وهو قائم على ملاحظة الواقع المغربي ومواجهة إشكالاته التي قد لا توجد في غيره من البيئات، وعلى تحقيق المصالح التي استدعتها حاجات طرأت للناس، وعلى درء المفاسد المترتبة عن إعمال أحكام سابقة، لم تعد صالحة لمنع وقوع الفساد. 

المقوم الأول: تمسك المغرب بالمذهب السني في العقيدة والفقه

المقوم الثاني: اختيار المغاربة للأشعرية مذهبا في العقيدة

لقد كان لاختيار المغاربة للأشعرية بواعث موضوعية منها:

أ- إن الأشعرية اعتمدت عامل توحيد عقدي بالمغرب

قبل أن ينتهي المغرب إلى الأخذ بالأشعرية عقيدة، فإنه قد عاش حالة من الصراع والتنازع العقدي أضاعت عليه نحوا من ثلاثة قرون من تاريخه.

فقد عرف المغرب تمدد مذاهب عقدية متزامنة أو متلاحقة، كان كل منها يحاول أن يستأثر بالحياة الدينية بالمغرب.

وميزة المذهب الأشعري التي اختاره المغاربة على أساسها، أنه قد انبثق هو نفسه من رحم خلافات عقدية عمت المشرق.

وقد كان أبو الحسن الأشعري معتزليا، أخذ الاعتزال عن أبي علي الجبائي ثم أعرض عن الاعتزال بعد أن خبره مدة طويلة.

وقد أسس أبو الحسن الأشعري مذهبه العقدي واضعا في اعتباره أنه بصدد بناء مذهب سني المضمون والمنزع، لكنه ذو طبيعة حجاجية نضالية، لأنه كان يعي ما تمثله المذاهب العقدية ذات القدرة الكبيرة على الاستقطاب من خطورة على وحدة الأمة، ومن حيدة عن منهج أهل السنة والجماعة.

وحين اختار المغاربة الأشعرية، فإنهم كانوا يعيشون مثل الظرف الذي شهد نشأة الأشعرية، وهو ظرف اكتسحت فيه الفرق الكلامية الحياة الدينية، وألزمت الناس باختياراتها، فكان قصد المغاربة الاستفادة من الخصائص الجدالية الأشعرية فواجهوا به العقائد المستفحلة. وكان من أثر نشر هذا المذهب أن غاضت المذاهب وتهاوت بعد سجال الأشعرية معها وتفكيك مقولاتها، وإبراز مواضع الضعف فيها.

ومن خصوصيات المذهب الأشعري التي تميزه عن غيره من المذاهب العقدية أنه مذهب وسط، وأنه تجافى عن الوقوف على أحد طرفي النقيض في القضايا العقدية التي تبناها.

ب- الأشعرية وإرساء قواعد السلم الاجتماعي

 حينما درست الأشعرية، كان من عيوب ذلك الدرس اقتصاره على تجلية الجانب العقدي التي تميزت به الأشعرية عن غيرها، لكن تلك الدراسات بحكم عدم التخصص غالبا، لم تكن قادرة على أن تغوص في تضاعيف الأشعرية، فتستشف منها من الآراء ما كان سببا مباشرا في نشر السلم بين المسلمين، على النقيض مما اتسمت به مذاهب أخرى كالمذهب الخارجي الذي طالما خرج معتنقوه على الناس واستحلوا دماءهم وأعملوا فيهم السلاح، وعلى نحو ما فعل القرامطة حينما قتلوا الناس وهم يطوفون بالبيت الحرام سنة 317هـ.

إن ميزة الأشعرية أنها تتوفر على مضامين فكرية قوية عديدة، هي أسس راسخة لإقرار السلم بين المسلمين، ومن أهم ما تستبطنه الأشعرية من أسس السلم الاجتماعي، موقفها من صلة الأعمال بمفهوم الإيمان، وانتسابها إليه على سبيل الشرطية لا الشطرية، وهذه قضية ذات حساسية كبيرة وخطورة بالغة، لا يوليها أهميتها المستحقة أكثر من يبحث عن أسباب التطرف والعنف، ولا يقدرها قدرها إلا علماء العقيدة.

والفكرة الإيجابية التي ينطوي عليها هذا الأصل، هي عدم جواز تكفير أي مسلم بذنبه العملي، ومن ثم لا يجوز إقصاؤه عن جماعة المسلمين.

ومن مضامينها وآثارها الاجتماعية، أنه لا يجوز رفع السلاح في وجه مسلم ولا قتاله.

إن أصل الانحرافات في عقول بعض المسلمين أمور نظرية من قبيل ما ذكرناه، ولكن هدم السلم في بلدانهم كما يقع اليوم، والغدر بالأبرياء وتقتيلهم وقطع رؤوسهم، أمر من عمل الشيطان ومن موارد جهنم التي ينبغي أن ينهض جميع العلماء بل جميع المسلمين في وجهها بشدة مهما اختلفت آراؤهم.

ومما اهتمت به الأشعرية فألحقته بمباحث العقيدة، مبحث الإمامة العظمى وإمارة المؤمنين، وما كتبه عبد الملك الجويني في كتابه غياث الأمم معبر عن الرؤية السياسية للأشعرية، وفيه مضامين كثيرة لا يمكن تقصيها، ومن أبرزها أن نصب الإمام ومبايعته أمر واجب وجوبا شرعيا، وليس وجوبا عقليا كما ترى ذلك الزيدية والمعتزلة، ومنها أنه لا يمكن تعدد الأئمة في المجال الواحد، ومن شأن هذا أن يمنع دعوات الانفصال، ومن أبرزها جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل حسما للنزاع الذي غالبا ما كان ينشأ عن توهم فرد أنه أفضل من الإمام، وأنه أحق بإمارة المؤمنين منه، وتفاديا للخصومة بسبب التطلعات غير المنتهية إلى الحكم.

المقوم الثالث: الأخذ بالمذهب المالكي

كما عرف المغاربة في أوائل تاريخهم الإسلامي ولمدة قصيرة مذاهب عقدية منها المذهب الخارجي والشيعي والاعتزالي، ثم تحولوا عنها إلى المذهب السني، وعرفوا قراءة بن عامر وحمزة، ثم تحولوا إلى قراءة نافع، فإنهم عرفوا مذاهب فقهية كان منها: مذهب أبي حنيفة ومذهب الأوزاعي، لكنهم تحولوا إلى المذهب المالكي، وقد كان لأخذ المغاربة بالمذهب المالكي أسباب موضوعية منها:

1. سنية المذهب، وتمثيله للواقع العملي الذي ترك عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.

بصرف النظر عن كل الروايات التي لا تقوى قوة الفعل الجماعي المعبر والمترجم لآخر ما مات عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

 ومذهب مالك ليس مذهبا في الفقه فحسب، وإنما هو مذهب في الفقه وفي المعتقد، وهذا جانب قلما يلتفت إليه المتحدثون عن مذهب مالك، والمعروف عن مالك أنه كان شديد التوقير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولحديثه، وقد ذهب في هذا مذهبا بعيدا.

 أفرد شهاب الدين القرافي ضمن كتابه الذخيرة بابا أسماه الباب الجامع، وقال فيه: إن ما يوجد فيه لا يوجد في غيره، وتحدث القرافي عن عقيدة مالك، وكيف أنه كان يرفض البدع العقدية قبل البدع العملية، وله في ذلك فتاوى صارمة، وقد أورث مالك هذا النزوع أتباعه، وقال هشام بن عبد الرحمن الخليفة الأموي بالأندلس إنه نقب عن أحوال الرجال كثيرا، فلم يجد من المالكية رجلا نسب إلى بدعة عقدية، ولذلك قال: إن الأخذ بمذهب مالك فيه سلامة المعتقد، وأكد عياض هذه الحقيقة وتحدث بها ورددها الونشريسي في المعيار المعرب، فلذلك لم يتـأت للبدع العقدية أن تتوسع وتنتشر في المجال الجغرافي الذي يضبطه المذهب المالكي، فحين نشأت الدولة العبيدية الفاطمية بتونس، كان للمالكية مواقف صارمة منها، ولقي كثير من فقهاء المالكية أذى كثيرا من العبيديين، فأوذي ابن أبي زيد القيرواني والقابسي، وأبو عمران الفاسي، وأعدم أبو إسحاق ابن البرذون، وأبو بكر بن هذيل كما يروي ذلك القاضي عياض في ترتيب المدارك في الجزء الخامس منه تحديدا.

2. سعة المذهب المالكي وقدرته الفائقة على الإجابة عن الأسئلة والطوارئ.

إذا كانت الأصول الاستنباطية المعتمدة تسعة عشر أصلا، فإن المذهب المالكي يأخذ منها بسبعة عشر أصلا، في حين أن بعض المذاهب لا تعتمد أكثر من خمسة أصول، وكل أصل استنباطي إنما هو إمكان اجتهادي، يمكن أن تعالج به نازلة من النوازل، ولذلك قيل عن يسر المذهب المالكي وسعته، مذهب مالك أوسع من مصر والشام والعراق، إلا في النكاح والعتق والطلاق، والتعبير بمصر يشير إلى مذهب الشافعي، وهو الغالب عليها، والإشارة بالشام إلى مذهب الإمام الأوزاعي، وقد عاش فيه، والإشارة بالعراق إلى مذهب أبي حنيفة وقد عاش فيه.

المقوم الرابع: الفقه المالكي المغربي

لقد اشتغل الفقهاء المالكية المغاربة ضمن نطاق المذهب المالكي، لكن المذهب المالكي نفسه فيه مدارس، منها: المدرسة المدنية والمصرية والعراقية والمغربية.

وسمة الفقه المالكي كله أنه أصبح فقها واسعا بسبب اعتماده مصادر استنباطية عديدة، فوجدت فيه مباحث لم توجد في غيره.

 يذكر القرافي في الفرق الثامن والخمسين من فروقه أن بيوع الآجال أكثر من ألف حكم اختص بها المذهب المالكي.

 وقال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ليس عند الشافعية كتاب الآجال.

 وبالإضافة إلى هذه السعة، فقد تميز الفقه المالكي المغربي عن الفقه المالكي بالمشرق، باعتماد أصل خاص هو أصل ما جرى به العمل، وهذا الأصل ينتظم أحكاما كثيرة، استعرض منها عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي المتوفى 1026هـ نحو ثلاث مائة مسألة جرى العمل بها بفاس، وقد تشكل هذا الفقه من إعمال أصل سد الذرائع، أو أصل تحقيق المصالح، وهو وإن لم يكن في جميع أحكامه موضع اتفاق بين الفقهاء، فإنه مع ذلك يدل على اعتناء بالمصلحة وارتباط بالبيئة وبالأعراف.

ويكفي أن أسوق مثالا واحدا لبيان طبيعة هذا الفقه:

إن فقهاء الأندلس والمغرب قد قالوا بجواز غرس أفنية المساجد وساحاتها بالأشجار، وكان مالك لا يقول بذلك، لأنه كان يرى أن ساحات المساجد هي وقف رصد للصلاة، فلا يستعمل في غيره، لكن فقهاء الغرب الإسلامي، قد عاشوا في بيئات أثثتها الخضرة، وجملتها الأشجار والظلال، فقالوا بجواز غرس الأشجار، لأنها تضفي على الساحات جمالا ورواء، وذلك ما يدفع إلى إطالة المكث فيها، وقد كان هذا الموقف هو موقف الإمام الأوزاعي، الذي عاش في بعلبك من أرض الشام، واستقر وتوفي ببيروت، وكانت بيئته حفية بالأشجار والظلال.

التدين المغربي في مواجهة تهمة الابتداع

من أكثر ما يواجه التدين المغربي حاليا سعي بعض الناس إلى نشر دعاوى تبديع بعض الممارسات التدينية، ووصمها بأنها خروج عن السنة.

وفي حالات كثيرة من إطلاق دعاوى التبديع، فإن المفهوم لا يحدد تحديدا علميا، وإنما يكتفى بإرسال حكم الابتداع بالاستناد إلى معيار واحد، هو عدم وجود الفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي حالات عديدة تكتنف دعاوى الابتداع اختلالات منهجية وإشكالات معرفية تحول دون الوصول إلى الحقيقة في الموضوع.

ويمكن الوقوف عند الاختلالات التالية:

الاختلال المنهجي الأول

ويتمثل في عدم الاهتمام بتحديد المفهوم الاصطلاحي الشرعي للبدعة، وبالاكتفاء غالبا بالدلالة اللغوية لكلمة بدعة، مع أنها أعم من الدلالة الشرعية.

الاختلال المنهجي الثاني

 وهو يتمثل في عدم استحضار باب معين من أصول الفقه وهو باب التروك النبوية، وهو باب مؤصل رغم عدم اهتمام البعض به.

الاختلال المنهجي الثالث

وهو يتمثل في عدم استحضار جميع النصوص الواردة في الموضوع.

أما الاختلال المنهجي الثالث الذي لم يسمح بإدراك حقيقة الابتداع فهو خلل يتكرر في كثير من القضايا المدروسة، وهو يتمثل في الاكتفاء بالدليل الواحد، من أجل استقاء الحقيقة.

ومنهج البحث العلمي الذي ترسمه علماء المسلمين يقتضي أن يطلب العالم الحقيقة، فإذا انتهى إليها جد في طلب ما يناقضها، ثم يوازن بين الحقيقتين، ويظهر خطأ المناقض.

وأبرز نص مغيب في دراسة موضوع البدعة هو قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في كتاب العلم، باب: ثواب من دعا إلى الهدى أو سن سنة حسنة. وقوله: حدثنا جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".

وورد الحديث بلفظ آخر فيه أنه جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة، فحث الناس على الصدقة فأبطأوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه، ثم قال: إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق، ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء". واللفظ وارد بصيغ أخرى وهو صريح في إفادة استحباب سن السنن الحسنة، وهي ليست تشريعا يشرع ابتداء، وإنما هي ابتكار طريقة في تنفيذ الأمر النبوي، وهذا الإحداث ليس بدعة، والحديث يفتح مجالا واسعا لسن طرق الخير التي ليست شريعة مزاحمة للشريعة، ولا موازية لها، وإنما هي تنفيذ لمضامينها.

والعجيب أن نجد تأويلات تحاول أن تصرف قول النبي صلى الله عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة عن ظاهره، وعن دلالته الواضحة إلى دلالة أخرى هي أن معنى من سن سنة هو من أحيا سنة.

 وهذا تأويل متعسف وتحكم لا يسنده أي شاهد من لفظ الحديث أو من سياقه، لأن التأويل ليس هو الأصل، وإنما تدعو إليه ضرورة بيانية، كتفادي التناقض الظاهر، أو مخالفة الواقع، ولا داعي إليه في هذا الحديث.

وقد كان سياق الحديث وقصة الرجل الذي تصدق بصرة من ورق أو ذهب بعد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى الصدقة هو سبب الورود وسياق الخطاب، وحين فعل الصحابي ما فعل، كان ذلك ابتكارا منه لهذا الأسلوب القوي في العطاء، لأنه تجاوز القدر المألوف فيه، فكان فعله سنة حسنة تابعه عليها صحابة آخرون فعلوا مثل فعله، وإلى جانب كل هذا فإن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن فيه سنة مماتة تحتاج إلى أن يحييها صحابي بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم.

الاختيارات المغربية في التدين، في مواجهة تهمة الابتداع

بسبب اعتماد المدرسة الفقهية المغربية منهجا في التدين امتزجت فيه مقومات متعددة منها: الأخذ بالمذهب السني إطارا عاما للتدين، ثم الأخذ بمذهب مالك ضمن الإطار السني، ثم الاختصاص بأسلوب متفرد في الاجتهاد، تشكل منه أصل ما جرى به العمل.

وبسبب غياب نوع من المعرفة الشرعية هي العلم بأسباب الخلاف وموجباته، فقد نشأ تيار يستند إلى عدم معرفة الناس بطبيعة التشريع، وباختلاف المصادر الاستنباطية، وبواقع المدارس الفقهية، فأصبح يكيل تهم الابتداع لكل ممارسة تدينية لم يستطع أن يستوعب  أصولها الاستنباطية التي قامت عليها.

ومن هذا القبيل أن أصبح مألوفا أن توسم بعض الاختيارات الفقهية المغربية على أنها مجرد بدع، ومن ضمنها قراءة القرآن جماعة، وتثبيت الحزب الراتب، والاحتفال بالمولد النبوي، وتثليث الأذان يوم الجمعة، وغير ذلك من التصرفات التي أصبح الحديث عن كل واحد منها يتطلب إبراز أصوله وما قام عليه.

ومن المفيد استحضار أن الأنماط التدينية المغربية التي يعنيها الحديث هي مظاهر نشأت في أحضان معقل العلم الأول جامع القرويين، الذي تميز عن غيره بأنه لم يقع تحت سلطة أي فرقة مبتدعة، ولم يكن منبرا لها، وهو الأمر الذي لم تسلم منه أكثر المنابر العلمية القديمة، لأن أكثرها صار منبرا للدعوة إلى بدع  عقدية.

وحين تأسست تلك الاختيارات التدينية، فقد كان من ورائها علماء عرفوا برسوخهم في المعرفة الشرعية، وعرفوا أيضا بحرصهم الشديد على التزام السنة النبوية.

لذلك فإن من الواجب وضع النقاش حول الاختيارات المغربية في التدين ضمن هذا الإطار الذي يستبعد به وقوع التهاون في السنة أو الجهل بحقيقة البدعة.

إن قصة إيجاد أنموذج مغربي في التدين، مما أصله العلماء ورعوه، ورتبوا عليه أحكاما كثيرة، هي قصة سلوك ذكي سعى إلى تثبيت أحكام الدين في ثنايا المجتمع، وإلى إحالتها إلى فعل اجتماعي، يتأيد بسلطة المجتمع وحمايته للأعراف المجتمعية التي يجتمع عليها الأفراد.

إن المتأمل والدارس لواقع التدين المغربي، وهو ميدان شاسع له تمثلات كثيرة لا يمكن حصرها في ممارسات قليلة كقراءة الحزب، يستخلص سمة من سمات هذا التدين، مقتضاها أن المغاربة كانوا يعمدون إلى إسناد ودعم الفرائض الشرعية بأفعال اجتماعية مؤازرة، فيؤديها الناس بكل سلاسة ويسر، مثلما يؤدون كل أعمالهم الاعتيادية.

فحين كان المغاربة حريصين على أن يقبل أبناؤهم على طلب العلم، فقد اصطنعوا جملة وافرة من الممارسات التي قد يراها البعض بدعة، فكانت بعض مناطق المغرب تتحين بلوغ الصبي خمس سنوات، فتقيم له احتفالا أسريا بمناسبة خروجه الأول إلى الكتاب، وهذا الفعل مستقى من حقائق علمية منها أن سن الخامسة هي السن التي جعلها المحدثون سن بداية الطلب والتحمل، أخذا من قصة محمود بن الربيع الذي عقل من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهه وعمره خمس سنوات، فكان أصغر صحابي تحمل الحديث، كما أن السلوك المغربي قد أخذ بما فعلته أم الإمام مالك، حينما هيأته لحياة الدراسة وألبسته الطويلة، ودفعته إلى ربيعة الرأي ليتعلم منه. وقد أخذ العلماء بعدد من العادات الحسنة تهم متعلم القرآن ورصد أوقاف للطلاب وترسيم الشرط وممارسات تعزز تشجيع حفظة القرآن والاحتفال بالعلم.

مولاي أمير المومنين هذا حديث لم يعد أن يكون توطئة وتمهيدا لدراسات علمية يجب أن تتخذ من استقصاء جزئيات ومفردات التدين المغربي السني موضوعا لها، ولعل هذا حين يتم أن يكون مبحثا قائم الذات ضمن حقل من حقول المعرفة الشرعية والاجتماعية.

ومن حاول هذا فسيجد أمامه مادة غزيرة للاشتغال، لأن الحياة التدينية المغربية مجال واسع الأكناف، ممتد الجنبات، مفعم بالممارسات التدينية السنية التي رعاها العلماء.

وقد يكون من أقوى البواعث والدواعي إلى إقامة هذا المبحث في هذه اللحظة بالذات، أن هذا النموذج أصبح يستلفت الأنظار إليه، فتوجهت إليه شعوب إسلامية عديدة، أوفدت أئمتها ومؤطريها الدينيين للاطلاع على هذا النموذج عن كثب ولاستيعابه ونقل تجربته إلى بلادهم.

وإذا كان الأمر هكذا، فإن من المؤسف أن يوجد من جعل تفكيك هذا النموذج وهدمه أكبر اهتماماته ومنتهى غاياته.

لكن المتتبع لمسار التدين بالمغرب يستخلص بعد قراءة متأنية أن هذا النموذج لم يكن في يوم ما أكثر قوة ومنعة مما هو عليه الآن، وقد كان من التصاريف الإلهية أن وفق الله أمير المؤمنين ومنذ أن اعتلى عرش أسلافه المنعمين إلى العكوف على تقوية هذا النموذج بإصرار شديد، وبنفس طويل، وبإرادة لا يعتريها الكلل ولا الملل، فأنشأتم شبكة من المؤسسات الراعية للتدين، وأصدرتم مجموعة من الظهائر المؤسسة وهكذا، عززتم وجود مؤسسة العلماء لما شرفتموها برئاستكم وجعلتموها مؤسسة دستورية ذات اختصاصات محددة، ووسعتم قاعدة اشتغالها على مستوى كل العمالات، وأضفتم إليها عنصر المرأة التي منحتها دفقة قوية، فوجدت المرأة الحافظة للقرآن والواعظة والعالمة والمرشدة، وأقمتم إلى جانب هذا مجلسا خاصا بالجالية  المغربية المقيمة بأوربا، وعززتم وجود دار الحديث الحسنية، وأنشأتم معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، فاستقطبت هذه المؤسسة أفواجا من الشباب المغربي كانت تبحث عن مجالات للاشتغال، وأنشأتم معهد محمد السادس للقراءات وللدراسات القرآنية، وأنشأتم مؤسسة محمد السادس لنشر المصحف الشريف، وقد استطاعت أن تنشر المصحف المعد بكل عناية وإتقان على نطاق واسع داخل المغرب وخارجه، وأنشأتم مؤسسة محمد السادس لتاريخ المغرب، وفوق هذا فقد وسعتم من نطاق وجود الدراسات الشرعية باعتماد برنامج التعليم العتيق الذي أصبح يعد بتخريج أفواج من العلماء ذكورا وإناثا يحملون أمانة العلم ويبلغون الرسالة ويحمون ثوابت المغرب عن علم ومعرفة.

حفظكم الله يا مولاي وحفظ بحفظكم هذا الوطن الآمن ووطد بكم أمنه واستقراره وأسبل عليكم أردية الصحة والعافية، وأقر عينكم بولي عهدكم الأمير مولاي الحسن وبسائر أفراد أسرتكم العلوية الشريفة، وأبقى المغرب ببقائكم واحة أمن واطمئنان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والختم من مولانا أمير المومنين