دور علماء المغرب في حماية الهوية الوطنية

0

نص الدرس الحسني الافتتاحي للعام 1438 هـ الذي ألقاه بين يدي جلالة الملك السيد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، يوم الأحد 02 رمضان 1438 الموافق لـ 28 ماي 2017 متناولا بالدرس والتحليل موضوع "دور علماء المغرب في حماية الهوية الوطنية" انطلاقا من الحديث النبوي الشريف "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"

الدرس الحسني "دور علماء المغرب في حماية الهوية الوطنية "انطلاقا من الحديث النبوي الشريف "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحابته الأكرمين

مولاي أمير المؤمنين

يرى دارسو الإسلام ومن بينهم العالم الهندي محمود قاسم زمان في كتابه "العلماء أوصياء على الأمة"، أن مسألة العلماء من أدق القضايا التي تهم المسلمين في الوقت الحاضر، والواقع أن الأمة قد اعتبرت علماءها عبر التاريخ مرجعا في الدين، واعتبر العلماء أنفسهم موقعين عن رب العالمين، واستجدت في عصرنا هذا أمور كثيرة في التدبير المتعلق بالسياسة والمعيشة والثقافة والتساكن، شغلت الناس، فلابد أن يتم في ضوئها تدقيق موقع العلماء ودورهم المناسب لمقاصد رسالتهم النبيلة، والمؤمل من هذا الدرس، إن شاء الله، بيان تميز مملكتكم في هذا العصر يا مولاي باستمرار الحضور الفاعل لمشيخة العلماء، وقد أضفيتم عليها طابعا مؤسساتيا في إطار المجلس العلمي الأعلى. ومن أسانيد تأصيل دور العلماء في السياسة الشرعية، هذا الحديث الشريف المروي عن جدكم المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، والذي جاء فيه: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"، والحديث، يا مولاي، وإن كان يدخل في درء المفاسد، يمكن أن يعد من أعلام النبوة ومن البشارات التوقعية العظيمة، ذلك أننا نرى اليوم أن الأخطار التي تتهدد الدين من الداخل، هي هذه التي ورد ذكرها في الحديث. وحيث إن الدين بثوابته هو العنصر الأهم في هوية المؤمنين، وحيث إن عددا من مقومات الحياة الأخرى ملحقة بهذه الهوية، فقد وجب بيان حضور وعي العلماء بدورهم في حماية هذه الهوية مع استحضار خلفيات المتربصين بها. والواقع أن عملهم في هذه الحماية، جزء من حماية الدين المنوطة بمقتضى البيعة بإمارة المؤمنين، دون أن ننسى أن لكل مواطن بمقتضى الشرع مسئوليته في هذه الحماية.  وسنسوق الكلام إن شاء الله في المحاور الأربعة الآتية:

المحور الأول: شرح الحديث، ويتضمن إجابة عن السؤالين التاليين: من هو عالم الدين؟ ومن هي الأصناف الثلاثة التي يتوجب على العلماء حماية الأمة من تأثيرها؟

روي هذا الحديث من وجوه وطرق متعددة، وممن وقفوا عنده الحافظ ابن عبد البر وأبو الوليد ابن رشد في جوابه عن سؤال يوسف بن تاشفين، وشرف الدين الطيبي وابن قيم الجوزية وابن الوزير وأبو الحسن القاري والمظهري، وإذا تدبرنا مضمون الحديث بدت لنا فيه فوائد جليلة منها:

  1. أن الدين مرتبط بالعلم؛
  2. أن حمل علم الدين أمانة وليس مجرد معرفة؛
  3. عدم جواز ترك الفراغ لمن يفسد الدين في أي جيل من الأجيال؛
  4. أن المطلوب من العلماء إلى جانب التبليغ حماية الدين من الفرق التي تفسده؛
  5. أن هذه الحماية تكون بالبرهان الذي يرشد العقل إلى الاعتدال؛
  6. أن أصناف المفسدين يدخلون في الغالين الذين نسميهم اليوم بالمتطرفين، وفي المبطلين وعلى رأسهم الذين ينكرون عمل أئمة السلف في اجتهاداتهم واستنباطاتهم، وهم صنف من العدميين؛ وأن الجاهلين هم الذين لا يحملون الضروري من علوم الدين أو الذين لا يراعون سياق الأحكام ومقاصدها، وإذا تكلموا في الدين كانوا منتحلين متطفلين.
  7. أن ربط هؤلاء العلماء بكل جيل يفيد الاستمرار ومقتضى تبدل الأحوال؛
  8. أن الحديث يقتضي الحرص على إقامة هذه المشيخة من قبل ولي أمر المسلمين؛

وهكذا فالحديث يقدم تعريف عالم الدين من خلال وظيفة وصفة: أما الوظيفة فهي في الجانب الوقائي منها نفي تأثير المفسدين، أما الصفة فهي العدالة، أي ما نسميه اليوم بالنزاهة الفكرية، لقد عرف المفسدون في تاريخ الإسلام ب"أهل الأهواء"، أي الذين لهم انتماءات تزيغ بهم عن فهم الجمهور؛ وقد تحدث عنهم العلماء في مصنفات شهيرة، وحيث إن الإمامة العظمى في كل وقت هي المؤسسة الجامعة فوق الأهواء، فإن العالم الذي يعينها على رسالتها هو عالم الأمة، ولا يمكن أن يكون هذا المعين ولاء لطائفة أو فرقة أو تيار أو حزب من الأحزاب، لأن عمل العلماء في بعدي النفي والإثبات يدخل كله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يرجع التكليف به لولي أمر المسلمين. ولا إشكال في عالم منتم إذا كان انتماؤه لا يحمله على مخالفة ثوابت الهوية الوطنية.

ومن المفيد هنا أن نذكر أن ابن قيم في كتابه "مفتاح دار السعادة ومنشور العلم والإرادة" قد أحال في شرح لفظ "العدول" على معيار المحدثين، وهو الجرح والتعديل، بيد أن هذا المعيار إن تعلق بمسألة النقل فإنه قد لا يشمل مسألة الشرح، وبهذا يظهر انحياز الشارح المذكور لمن تميزوا باسم أهل الحديث، ثم إنه زاد فقال؛ "إنه صلى الله عليه وسلم قد "عدلنا"، بمعنى أن كل من يحمل الحديث وليس فيه قدح بمعايير أهل الحديث فهو عدل في نظر ابن قيم، وهذا أمر لا يستقيم سياسيا لأن القائلين بالإرهاب اليوم لهم منطلقات مبنية على فهوم شاذة للنصوص، ولا يتعلق الأمر بمجرد صحة النقل أو دم صحته، ومن هذه الفهوم ما يجوز التكفير.

فما هو يا ترى أصل الخلاف وطبيعته بين العلماء العدول وبين هذه الطوائف المنحرفة في تفسير الدين؟

ليس المقصود هنا الاختلاف في الاجتهاد، بل هو الخلاف في القضية الأساسية وهي "التكفير" نظرا لما يترتب عنه من الفتنة واللجوء إلى العنف لفرض رأي طائفة من الطوائف.  

ولهذا الخلاف جذور قديمة وتمظهرات حديثة، وسنتناول  تباعا في هذا المحور الثاني تلك الجذور وهذا السياق الحاضر.

بالرجوع إلى وقائع التاريخ نجد أن الرسول الأكرم محمدا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، قد صاغ حياة المجتمع الأول بما تلا من الآيات المنزلات وزكى وربى من نفوس طاهرات وعلمها من الكتاب والحكمة، وكان الالتزام بهذا التكوين متوقفا على قدر اشتغال وازع القرآن أي على قدر تشبع المؤمنين بإيمانهم والعمل بمقتضاه، وتجلى هذا الإيمان في أعلى درجاته عند الصحابة المقربين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ولم تكن تحمي هذا البناء بعد النبوة قوة عمومية رادعة، وكان قوام الدين في نفوس عامة الناس هو الحق ضد الباطل، والعدل ضد الظلم، والإيثار ضد الشح والصبر ضد الجزع والحلم ضد الطيش، وتفاوت الوازع بتفاوت الإيمان في مواجهة الابتلاءات الحادثة بعد وفاة الرسول، ولم يكن الإخفاق في درء تلك الابتلاءات راجعا لمجرد تلاشي الإيمان عند البعض، بل اقترن أيضا بظهور تصور مثالي عن تمظهر الدين في الحياة، وقد وقعت الفتنة الكبرى التي بلغت ذروتها في الاغتيالات التي تعرض لها ثلاثة من الخلفاء الأربعة الراشدين، وحدث تبعا لذلك، نشوء التطرف السياسي في تاريخ الإسلام من جهة، وتلبس هذا التطرف منذ الوهلة الأولى بلباس القراءة المنحرفة للنصوص من جهة أخرى، فقد أراد الخوارج التعبير عن الاحتجاج حول مسألتين هما المشروعية والعدل، ومع غموض التصورات وغياب اللغة السياسية المناسبة لبس هؤلاء قناعا لا يفضي إلى شيء عملي فكانوا يرددون: "لا حكم إلا لله" فكان الجواب الحاسم في قولة الإمام علي كرم الله وجهه: "كلام حق أريد به باطل".

والواقع أن المسلمين قد واجهوا خلال العقود الربعة الأولى مشاكل اجتماعية متعددة، في وقت كان يلتحق فيه بالإسلام أهالي أطراف شاسعة متنوعة في ثقافتها، وصاحب هذه المشاكل فهم مثالي احتجاجي حامل للتطرف من جهة، وفهم أناني لا يأبه كثيرا لما يحمله المشروع الإسلامي من خلق التضامن، ومعلوم أن نمو طرائق تحقيق التقدم نحو التوازن في التعايش، قد احتاج عبر التاريخ، وإلى الآن، لا إلى مبادئ عادلة فحسب، بل إلى وسائل عديدة لتدبير الضعف الذي هو من طبيعة الإنسان.

كان من المؤشرات على التحول المادي السريع المبكر في حياة المسلمين، صوت الصحابي أبي ذر الغفاري الذي كان يحتج بقوله تعالى: ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم﴾ ويرى فيه ما يوجب توزيعا ما للثروة، أما المؤشر الآخر على ذلك التحول فيظهر في نشوء تيار الزهد ثم التصوف في الإسلام، وهو تيار، وإن كان يحمل الاحتجاج في معناه، قد جاء سلميا مسالما خاشعا على نقيض تيارات العنف والتطرف. وقد يكون المؤشر الثالث على نفس التطور الاجتماعي هو نمط الحكم الذي قام في دمشق بمراسيمه وآلياته واحتياطاته لتجنب الظروف التي وقعت فيها اغتيالات الخلفاء.

لقد قام الأئمة في القرنين الثالث والرابع باستنباط تفاصيل أحكام الدين في العقيدة والعبادات والمعاملات، باجتهادات تشكلت منها على الخصوص المذاهب السنية الأربعة، واحتدم الكلام حول فهم الدين بين تغليب النقل أو العقل، وحتى تطمئن النفوس وتتجنب الحيرة والشقاق في حياة التدين، اختار أهل كل بلد ما يناسبهم من تلك الاجتهادات في العقيدة، أي في فهم الإيمان، وفي المذهب، أي في كيفية أداء العبادات وتطبيق المعاملات، وهذا الاختيار هو ما نقصده بالكلام عن الهوية الدينية، ففي هذا السياق أخذ المغاربة بعقيدة أبي الحسن الأشعري التي هي إلى الآن عقيدة أكثر من تسعين بالمائة من المسلمين، اختاروها لاعتدالها في أمرين على الخصوص، هما إثبات ما ورد في القرآن من صفات الله تعالى دون الخوض في كيفها الذي يتجاوز إدراك العقول، وقيامها على اعتبار عمل المؤمن تكملة إذا أقر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهذا يعني أن الأشعرية لا تجيز التكفير بأي معصية من المعاصي.

وبعد اختيار العقيدة والمذهب أخذ المغاربة بطريقة التزكية كما بينها أهل التصوف، وبموازاة لهذه الاختيارات، بنى المغاربة إمامتهم العظمى في الحكم على البيعة لإمارة المؤمنين، وهي العنصر الرابع في هويتهم، وفي ظل هذه الثوابت حققوا إسهامهم الفكري المتميز بما حاولوا الوصل بين أحكام شريعة الإسلام وحكمة اليونان حتى في باب النظر والفلسفة، وبما كان لفقهاء المغرب من إسهام مشهود في إغناء فقه المعاملات، ومع هذا الانخراط والابتكار لم ير المغاربة يوما ما يجعلهم يغيرون ثقافتهم في نمط الحياة سواء في المعمار أو اللباس أو الطبيخ أو الهندام أو في العوائد والأساليب التي تغذت من تنوعهم الإثني. وقد ظهر فيهم ربانيون طهروا أرواحهم بالذكر وصحبة الأخيار في الله، وتميزوا بخدمة الناس بالعلم والتضامن وأنواع المواساة، وشهد الناس لأولئك الأخيار بالتميز الخلقي والارتقاء الروحي فبنوا عليهم القباب تعظيما لما ظهر عليهم من التجليات الربانية. كل هذا التاريخ المغربي الزاخر تحقق تحت رعاية الإمامة العظمى وتحت حسبة العلماء.

غير أن الأهواء والأطماع ظلت تتربص بالدين لتستعمله قناعا لذات القضايا المتعلقة بالمشروعية والعدل، لا من جهة جمهور أهل السنة، وهم الأغلبية، ولكن من جهة أقلية هامشية، لها حقها في الوجود ما لم تستعمل العنف في وجه الجماعة، ولعل غياب قاموس للحوار الرشيد الذي يوقر حرمة النصوص، من جملة ما جعل هذه الأقلية تلجأ إلى استعمال الخلاف الجزئي والجدال العقدي في تعبئة العامة الذين تقع تبعة حمايتهم على العلماء، سيما وأن الجدال العقدي الذي يستعمله المخالفون جدال مستعص على العامة الذين هم هدف أولئك المستقطبين.

ومن الأمثلة على استعمال الخلاف الجزئي في التعبئة السياسية ما وقع في عهد الموحدين، فقد عاد منظرهم ابن تومرت من المشرق وشرع في تعبئة قبائل المصامدة بترجمة عقيدته إلى الأمازيغية، ولكن خلفه عبد المؤمن الذي اقتحم العاصمة مراكش، أمر جيوشه ألا تدخل المدينة حتى يتم تطهيرها، وذلك بهدم مسجدها الكتبي الأول بدعوى أن جداره فيه بعض الانحراف عن القبلة، وإنما لجأ إلى هذه الجزئية لأنها محسوسة تدخل في اللغة التي تفهما العامة. إن عظمة الدولة الموحدية بكل إنجازاتها لا تنسي أن المشروع الأول قام على نزوع إيديولوجي من النوع الذي يطعن في الشرعية تحت قناع عقدي يبرر العنف في كثير من الأحوال.

وإلى جانب استغلال الخلاف الجزئي ظهرت في التاريخ أمثلة لاستغلال الجدال العقدي في الطموح السياسي، ومنها في تاريخ المغرب قصة الشخص المعروف بأحمد بن أبي محلي الذي عاش بتافيلالت في عهد المنصور السعدي وأولاده، كان في بدايته فقيها ورعا من المتصلين بالزوايا، لكنه ذهب إلى الشرق للحج وتنكر بعد عودته لحاله الأول، فأراد الزعامة والتوصل إلى الحكم مستغلا فرصة ضعف الحكم المركزي بتنازع أبناء المنصور، وقد أخذ يصطنع أتباعا من أنصاف المتعلمين يسلطهم على عامة الناس لاختبارهم في العقائد بشكل لا قبل لهم به، يقول عنه العالم الورع أبو سالم العياشي في كتابه: "الحكم بالعدل والإنصاف..." "طرق سمعي أن ... ابن أبي محلي أمر أصحابه أن يسألوا الناس عن معتقداتهم وعما أضمرته قلوبهم... في حق الله وصفاته وأسمائه... فمن أخبر بما يوافق الذي عندهم تركوه، ومن قال بخلاف ذلك كفروه وقالوا بفسخ أنكحته وحرمة ذبيحته... فأردت أن أطفئ نار التعصب، وأن أبين أن التعرض للناس بالبحث عن عقائدهم من سوء الظن بهم، وأن التكفير لا يجوز بعدم العلم بصفة من صفات الله لأن ذلك قد يتوقف على مجرد التعليم ... وأنه لا يخلو مسلم من اعتقاد صحيح ... ،وأن إناطة الأحكام الظاهرة غير جائز بالأحكام الباطنة التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى".

لم يستمع ابن أبي محلي لنصائح العلماء لأنه كان يطمع في الزعامة السياسية، ولكن حركته انتهت إلى الفشل على يد الشخص المعروف بأبي زكرياء الحاحي.

كانت الأمة قد عادت في العهد المريني إلى الأخذ بثوابتها في العقيدة والمذهب على الصعيدين الرسمي والشعبي، وعليها ظل الناس إلى أن أطلت عليهم في القرن التاسع عشر اقتراحات مشرقية مجددة تخالف ثوابتهم في العقيدة والمذهب والتربية الروحية، ولم يقبلوها، بل رد عليها العلماء وعلى رأسهم السلطان مولاي سليمان.

تلك كانت بعض وقائع الخلاف في التاريخ البعيد، أما سياقه القريب المتجدد فيرجع إلى النصف الأول من القرن العشرين حيث رفعت ثلة من علماء المغرب شعار السلفية، ويقصدون بها تأكيد التشبث بما كان عليه الأولون من أهل السنة والجماعة إطار هويتهم الدينية، أحيوا ذلك الشعار على الخصوص من أجل النضال ضد الاستعمار وعلى خلفية الاعتقاد السائد آنذاك بأن تخلف المسلمين يرجع قبل كل شيء إلى الانحراف عن الدين أو إلى التفريط فيه، ولقد حاول بعض المفكرين الإجابة عن هذا السؤال: "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم"، ومال البعض إلى القول بأن الأمر يتعلق بانحراف عن التوحيد، ولو وسع المسلمون معنى التوحيد إلى أبعاده الخلقية والسلوكية والحكمية والعملية إلى جانب بعده العقدي، لما فاتهم استحضار العناصر الموضوعية المتعلقة بتخلف المسلمين في أحوالهم الدنيوية، لقد تسرب هذا القصور في النظر من بلدان إسلامية إلى بلدان أخرى في خضم تاريخ عالمي اتسم بالاستعمار ووقائع ما بين الحربين وعقود الحرب الباردة وتيار الشعارات القومية وذهاب الحكم المدني في كثير من البلدان وسقوط المعسكر الشرقي، وفي خضم أزمة التبين في هذا السياق، عادت إلى الظهور أساليب الخلاف القديم بكل سلبياتها، غير أن حال المسلمين زاد من مأساوية هذه الأساليب أمام العالم، بالرغم من ثبوت قدر من مسئولية الآخر، ومن هذه الأحوال المؤثرة المستجدة التي عاد ظهور الخلاف فيها بين العلماء العدول وأصناف المنحرفين:

  1. وجود المسلمين في أطراف نظام عالمي حقق منذ عدة قرون تفوقا ماديا وعلميا؛
  2. عدم استيعاب المسلمين لتاريخهم الواقعي وتاريخ الأمم الأخرى؛
  3. عدم التمثل الشرعي الضروري لجوانب من أساليب الحكم الناجعة عند غير المسلمين؛
  4. حرمان الأغلبية من التعليم عامة وضعف تطور التعليم الديني خاصة؛
  5. وقوع المسلمين بين الانبهار والإنكار أمام عناصر من نمط عيش العالم المتفوق؛
  6. الالتباس بين التوجه القومي والتوجه الأممي مع ما صاحبه من تصور ضبابي لما يسمى بدولة الخلافة؛
  7. ضعف التأطير الاجتماعي للطرق الصوفية؛
  8. انبعاث هيئات في قوالب عصرية تطمح إلى استغلال الالتباس في الفكر السياسي من جهة وضعف التأطير التقليدي من جهة أخرى؛
  9. ظهور كتابات تتهم المجتمع الإسلامي الحاضر بالجاهلية وتبرر العنف؛
  10. ظهور كتابات عن الحاكمية، الشعار التعميمي الذي بدأ عند الخوارج؛
  11. إحداث الخلخلة في الهوية المذهبية لعدد من البلدان؛
  12. ظهور فئات اجتماعية دنيا ومتوسطة تبحث لنفسها عن هوية معصرنة في المرجعية الدينية ؛
  13. ظهور عروض محرفة للدين بديلا للثوابت من قبل الأصناف المذكورة في الحديث ؛
  14. اتساع الحريات وحرية التعبير؛
  15. تضخم ديموغرافي غير مصحوب بالنمو المناسب وتفاقم الهشاشة في هوامش الحواضر؛
  16. ولوج جماهيري إلى وسائل الإعلام المتواصلة التطور.

أمام كل هذه التحديات صمد علماء المغرب رجالا ونساء بفضل حصانة الثوابت التي تحميها إمارة المؤمنين، ونعرض في هذا المحور الثالث لبعض إنجازاتهم النظرية في الموضوع.

فبالإضافة إلى مهامهم في التبليغ والإرشاد والفتوى والتعليم والتكوين، قام العلماء بنشر ثلاث وثائق هي:

وثيقة عن المصلحة المرسلة في الفقه المالكي، وترد على المشككين في شرعية الدولة الحديثة بآليات حكمها وقوانينها، وخلاصتها أن كل ما يتعلق بالدولة سواء من جانب الأسلوب أو الآليات أو من جانب التدابير والإجراءات، يكتسي الشرعية الدينية الكاملة إذا توفرت فيه شروط المصلحة الشرعية وبررته المقاصد.

يذكر العلماء أن مدخل المصلحة مدخل شرعي مهم سيما وأن المسلمين لم يكونوا حريصين في القرون الأولى عند بناء علوم الدين على دراسة جزئيات ممارسة السلطة بقدر ما كانوا حريصين على معالجة الانحراف الفكري المهدد بالفتنة.

وقد ذكروا أن مجالات المصلحة هي:

  1. مجال ما لا نص فيه؛
  2. مجال ما كان موضع خلاف؛
  3. مجال ما كان منه تحقيق مصلحة مؤكدة.

وهكذا أقفلوا الأبواب على التأويلات الجاهلة لقوله تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله﴾.

وفي خلاصة الوثيقة قرروا أن المغاربة بمقتضى البيعة، يفوضون لأمير المؤمنين النظر في ما يصلح أحوالهم الدينية والدنيوية، وما يحمي اختياراتهم من الغلو والتطرف.

أما الوثيقة الثانية فموضوعها حكم الشرع في دعاوى الإرهاب، فقد ورد فيها أن المفاهيم الشرعية التي تحرفها دعوة الإرهاب لتسويغ مشروعها وتسويقه عشرة هي: الجاهلية والخلافة الراشدة والشورى والحاكمية والخروج عن الإجماع واللامذهبية والولاء والبراء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكفير والجهاد. وسنقتصر على إيجاز قول العلماء في مفاهيم أربعة هي التكفير والجهاد والخلافة الراشدة والولاء والبراء.

يقرر العلماء بصدد التكفير أن السلف الصالح في كل العصور قد اعتبر التكفير من أشنع التهم الباطلة التي ترجع إلى التعلق بظواهر النصوص وانعدام رؤية شاملة وفصل النصوص عن سياقاتها دون مراعاة فهمها على ضوء مقاصد الشريعة وقواعدها، وهذا يبين أن ما يدعيه المكفرون من أن قصدهم طاعة الله دعوى كاذبة ومغرضة.

أما الجهاد ففهمهم له باطل لاعتبارات صارمة منها:

أن الجهاد شرع للدفاع ، ولا يعلنه وينهيه إلا الإمام الأعظم؛ وأن الإرهاب الذي يسمونه جهادا يتناقض مع أهداف الإسلام الكبرى في نشر السلم والتعاون بين الناس.

أما شعار الخلافة الراشدة ففهمهم له باطل لأنهم قرنوه بمثالية متطرفة قد تصل إلى حد العصمة استنادا إلى آيات وأحاديث تقابلها أخرى تنظر إلى أمر الحكم بغاية الواقعية، أما الحديث الذي يستشهدون به فلا يراه عدد من أهل العلم صحيحا. ويرى العلماء أنه حتى من لا يقول بالعنف من أصحاب هذا الشعار فإن تحريضهم على عدم اتخاذ النضال المشروع المنظم وسيلة للإصلاح، يجعلهم من الممهدين لفكر التطرف والإرهاب.

أما مفهوم "الولاء" فحقيقته الولاء لله ولرسوله بالإيمان القلبي الباطني وما يتبع ذلك من توثيق آصرة الأخوة في الله بين المسلمين والتسامح بين كافة الناس. أما "البراء" وهو كره الكفر فعقيدة لا يترتب عنها كره غير المؤمنين الذين يتوجب التعامل معهم بالقسط والبر. ولذلك يرد العلماء معنى "الولاء والبراء" إلى الثوابت الأخلاقية في القرآن، بينما يبنى عليه الإرهابيون حكم تفكير المسلمين ولاسيما الحكام إذا تعاملوا مع غير المسلمين.

أما الوثيقة الثالثة فقد أراد بها العلماء تبصير الناس بحقيقة مصطلح أصيل يستعمل في هذا العصر في غير مضمونه، ألا وهو مفهوم السلفية الذي كان طيلة عصور تاريخ الإسلام ينطبق على جمهور المسلمين أي غالبيتهم، إلى أن ظهرت في العقود الأخيرة جماعة تعمل على احتجاز هذا المفهوم لتجعل السلفية عنوانا لفئة بعد أن كانت عنوانا لأمة. وهكذا بين العلماء أن الفئة القليلة التي خرجت عن الجماعة ولجأت للعنف في بداية الإسلام هي التي اعتبرها الجمهور ضالة مبتدعة، فإذا بها اليوم تريد أن تحيي الخروج عن الجماعة وتقلب الميزان وتتهم الجماعة الكبرى بالبدعة، فالسلفية الحق حماها أئمة المذاهب أولا، ثم أجيال العلماء من بعدهم على امتداد القرون، لذلك كانت آمنة من الخوف، معادية للتخويف، قادرة بقوة إيمانها وصدقها ومتانة علمها على القضايا التي ضيق فيها دعاة السلفية الناشزة على الناس، ومنها الاجتهاد بشروطه، والتأويل بقواعده وفهم الحقيقة والمجاز في سياقاته. والعلماء في وثيقتهم يدركون أن من بين الفئات التي تنتسب أو تنسب إلى السلفية في وقتنا هذا، ثلة من الأتقياء الدعاة المتميزين بالورع البعيدين عن مزالق العنف والتشدد.

بعد هذا العرض لبعض منجزات العلماء في المجال النظري إلى جانب عملهم الميداني نمر إلى ذكر عناصر يتوقف عليها دعمهم المستمر لحماية الهوية المغربية في السياق الجديد.

لا يخفى أن عالم الدين فاعل في التغيير إلى جانب غيره من الفاعلين، يذكر الناس بمعنى الحياة وبالسلوك المناسب لشرع الله وحكمته في الخلق، وهو يتميز بأنه يقنع الناس بجانبين: قوله من جهة، وفعله وحاله من جهة أخرى، وهو شرط غير مطلوب في أهل الصنائع الأخرى بما فيها التعليم، فالناس بحاجة إلى من يبلغهم أحكام الدين، ولكنهم يريدون أن يجدوا في هؤلاء المبلغين أشخاصا ربانيين يكون بهم الاقتداء والارتقاء.

غير أنه بقدر حاجة الناس إلى معرفة الحق ومواضعه، بقدر حاجتهم إلى معرفة أسباب وقوع الباطل وتلبساته، والعلماء عادة يهتمون ببيان الحق ولا يبصرون الناس بحبائل الباطل، وفي هذا مخاطر القصور عن مهمة النفي أي الحماية الواردة في الحديث، مخاطر ترك الجمهور الواسع فريسة لمصايد المحرفين.

ففي أفق هذا التحصين بمملكتكم يا مولاي يباشر العلماء من النساء والرجال، برامجهم في التوعية في قضايا أساسية يتطلبها العصر وأهمها:

  1. توعية الأئمة بالثوابت في أفق حماية المساجد وإعطاء المناعة الكافية لضمير الأمة، بخطاب يتأتى به استثمار وازع القرآن في التزكية التي تعني قبل كل شيء نوعا من الحكامة الجيدة التي لا يتحدث عنها الناس، وهي حكامة الإنسان في نفسه حتى يكفي الأمة عواقب شره وعبء ضعفه، وحتى ينمي لديه الاستعداد للعطاء ولاسيما في مستوى التضامن، وهذان الجانبان من السلوك من شأنهما تحقيق الطمأنينة من جهة والتخفيف من الكلفة المادية للحياة، وهذا يعني أن وازع القرآن الذي يفترض أن يستثمره العلماء هو المصدر الأساس للرأسمال اللامادي في ثقافتنا إذا أردنا أن المشاركة في مستقبل تنافسي مع العالم يسامت قوله تعالى ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾؛
  2. التوعية بأهمية سياق تنزيل الأحكام على حالات متفاوتة التعقيد، والتلاؤم المشروع مع ما استجد في العصر من تدبيرات لا تتناقض مع مبادئ راسخة في قيم الإسلام؛
  3. التوعية بأن الأمر الجامع الوارد في القرآن يجد تفعيله اليوم في عمل المؤسسات التي فيها ضمانة أكبر للعدل والصواب في كل شيء ومنه القيام على الفتوى للمسلمين؛
  4. التوعية بضرورة استكمال المنظومة التربوية النبوية في بابي التزكية والحكمة، ومعلوم أن التزكية على المنهج الصوفي يحاربها المتطرفون، وتتوقف حماية منهجها على علماء الحاضر بحجة تأصيله في الإرث النبوي وتأطيره بفكرة الجنيد وحسبة أمثال الشيخ أحمد زروق؛
  5. التوعية بحماية الهوية الثقافية التي أسهم بها المغاربة في مختلف الفنون المعبرة عن مشاعر إنسانية أمام جلال الله أو جماله، أو عن التحير أمام آياته في الوجود أو في أحوال الناس في السعي والصبر على القضاء، وهكذا يمكن للعلماء إذا أحسنوا الإنصات والإبصار أن يروا في الفنون الراقية السمعية أو البصرية أو الدرامية أو التشكيلية تجليات رقيقة لملامح البحث عن عبودية عميقة تدخل فيها الفطرة والأحاسيس واللاوعي، ولعلماء المغرب في التاريخ اجتهادات سنية بإدخال عدد من المظاهر الثقافية الشعبية في دائرة الشرع، لاسيما في العالم القروي.
  6. الوعي بأن إسهام العلماء في حماية الهوية ضد التطرف يستمد قوته من إصلاحات الإمامة العظمى، فإذا كان علماء المملكة يدحضون تحريف الدين في الواجهة النظرية كما رأينا بالفهم المؤصل المعتدل، فإنهم في الواجهة السياسية الميدانية يتوفرون على الحجة الكبرى المتمثلة في وفاء إمارة المؤمنين بكليات الدين التي هي مدخل العلماء والأئمة إلى فهم البيعة والسياسة عامة، وتترجمها في المصطلح الحديث عبارة الإصلاح الشامل وما يجب له من المساندة الشرعية؛
  7. توعية الناس بالخطورة الرمزية للمخالفة في جزئيات التدين، فإذا كان المخالفون لا يستطيعون في البيئة المغربية المجاهرة بعقائد التكفير، فإنهم يظهرون المخالفة في جزئيات المذهب التي لها وقعان سلبيان، أولهما تدمير ولاء المتطرفين لجماعتهم، وثانيهما إحراج فكري لجمهور الناس الأوفياء للثوابت الذين ينظرون إلى تلك المخالفات كأنها خطاب موجه إليهم ينم عن استعلاء المخالف أو عدوانيته، سيما وأن المغاربة تربوا على وحدة دينية يشبه انسجامها وتناسقها تناظر عناصر الزليج بألوانه، انسجام سرعان ما تظهر فيه الخدوش والنشوزات. ومن هذه المخالفات المذهبية الجزئية إدخال التطريب في صيغة الأذان، وإسقاط الأذان الثالث يوم الجمعة، و قراءة بسم الله الرحمان الرحيم في الصلاة، وقبض اليدين في الصلاة، ومد قول آمين عقب الفاتحة، والخروج من الصلاة بتسليمتين، وإنكار قراءة القرآن جماعة، وإنكار الدعاء والذكر جماعة عقب الصلوات، وعدم اعتماد العين المجردة في رؤية الهلال، وإسقاط الذكر وقراءة القرآن على الجنائز، وتبديع الاحتفال بالمولد النبوي، ومخالفة جمهور المغاربة في تقدير أهل الفضل وزيارة مقابرهم وبناء المشاهد عليهم، إن هذه المخلفات ليست لها من أهمية دينية بقدر ما لها من خطورة سياسية، وتدل الوثائق البصرية الراجعة إلى العقود القليلة الماضية أن هذه المخالفات لم يكن لها وجود في حياة المغاربة، فقد طرأت في ما يشبه عولمة داخل الإسلام لا توقر الاختيارات السليمة المبنية عليها الثوابت الوطنية، وتضاف إلى هذه المخالفات مظاهر سلوكية تضخمت معها عند المخالفين رسوم التدين وأشكاله الظاهرية ولاسيما مخالفة أهل البلد في لباسهم، ومن جملة أضرار هذه المخالفات أنها تشوش على وعي الأجيال الصاعدة بخصوص جوهر الدين وحقيقته التي ترجع إلى القلب قبل كل شيء؛
  8. التوعية بوجود مرض طفولي أو صبياني مرافق للإسلام يستغله لدى الجماهير ذوو الأطماع في السيطرة، ألا وهو التطرف في المثالية لاسيما في الرؤية إلى الحكام والواجبات الدنيا في التدين، وهو مرض ظهر ما يشبهه في هامش عدد من التيارات الإصلاحية الكبرى حتى خارج الإسلام، وحجة العلماء في محاربة هذا المرض بيان ما ورد في القرآن من واقعية مرتبطة بسنن الله ومراده في الخلق. ومن ألطف ما ألفه المسلمون حول هذه النظرة النسبية المعتدلة في التدين، كتاب محمد بن يوسف المشهور بالمواق الغرناطي من آخر القرن التاسع، وعنوانه: "سنن المهتدين في مقامات الدين"

فقد بناه على قوله تعالى: ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير﴾. (فاطر 32-33).

وقد ذكر أن قصده من التأليف بيان مرحومية هذه الأمة ووجوب الرفق بأهلها والنظر إلى عصاتها بعين الرحمة، لكون أصنافها الثلاثة المذكورة في الآية من أهل الجنة، لأن الذنب لا يخرج وإن عظم عن الإسلام ولا يقصي من رحمة الله.

وقد قرر المؤلف وجوب القيام بنقد الذات، ولاسيما بالنسبة للمحتسب الذي هو عرضة لأن يتكبر على خلق الله؛ وقرر أن كل مختلف فيه لا إنكار فيه، وأن خسيس الفعال خير من الأخس، وأن كل ما حضرت فيه النية يصير مكرمة مباحة، ثم جاء بأقوال لمشاهير السلف تتضمن أنواعا من العفو والتوسعة في مثل جواز قول الغزل والغناء والترفه في الملبس والأثاث، وقال: "ليس كل الزهد في قلة الأكل، فقد يكون في الإنفاق وقلة الاحتكار".

  1. التوعية بأن النموذج الذي يمكن أن يوهم به الإرهاب أتباعه ويخدع به الناس ويغري به السذج منهم على الخصوص لا يمكن أن يكون غير وضع قائم على الإكراه المرفوض في الدين؛
  2. التوعية بمسئولية كل مسلم في ما يستهلكه من معلومات أو فهوم تمس الدين من قريب أو بعيد، والحديث المبني عليه الدرس فيه حث للعلماء لحماية المستهلك، ولكن الدين يحث من جهة أخرى على وجوب حماية المستهلك نفسه بنفسه، كما في الحديث أو الأثر الذي جاء فيه: "إن هذا العلم دين فلينظر أحدكم عمن يأخذ دينه"، ويكتسي الأمر أهمية خاصة في هذا الفضاء العالمي الحر المفتوح للإرسال والتلقي مع وجود عوامل عديدة تقوي القابلية للإغراء والاستقطاب؛
  3.  تحدي التعامل مع وسائل الاتصال؛ إن العلماء يجدون في تكنولوجيا التواصل الحديثة ما يجعلهم أقدر على حماية الهوية، وهي ذات الوسائل المتوفرة للذين ينشرون الباطل من الجاهلين والمبطلين والمتطرفين، والمنتظر من العلماء هو حسن استعمال هذه النعمة بما يناسب مقامهم، وعليهم أن يقنعوا الناس بهذا المقام على مستوى المصداقية، حتى يلتفت الناس عن الفتانين الذين يستغلون حرية التعبير، وهذا ما يستوجب من العلماء حسن الظن بالناس في القدرة على التمييز إذا قدم لهم على قدر عقولهم ما يفرقون به بين الغث والسمين، و مع هذا كله يبقى حال العالم الملتزم الصادق وهو يعمل على درء الفتنة كالقابض على الجمر، حتى وإن أعرض عن الجاهلين؛

مولاي أمير المؤمنين

من القواعد التي اتبعها العلماء في اشتغالهم تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، لأن أفظع ما يمكن أن ينزل بالأمة وبدينها هو الفتنة أي عدم الاستقرار، وذلك لما يترتب عنها من انعدام اليقين سواء في مستوى العبادات أو المعاملات، ومن المؤسف في هذا العصر أن الفتانين بأنواعهم يشغلون العلماء بدرء المفاسد، وكان الأنفع للأمة أن يشتغل هؤلاء العلماء كلية بأعظم إسهام في التنمية يرتكز إلى إعطاء المعنى للحياة والتربية على التقليل من تكاليفها المادية وهو ما يحتاج إليه النظام الاقتصادي العالمي المتأزم.

إن علماء المغرب قد تأتى لهم ما حققوه في خضم تجربة تاريخية جارية، الحجة الكبرى فيها ضد التطرف هي سياستكم الإصلاحية الداخلية والخارجية التي يقرؤها العلماء قراءة شرعية من منظور وفائكم بكليات الشرع على أوسع ما تتيحه آليات التدبير الحديث.

ومن جملة ما يحمي عمل العلماء في هذه السياسة الجانب الأمني الذي يدخل في وازع السلطان وتستدعيه الظروف الإقليمية والدولية التي يتسرب منها إلينا كثير من الضلال، كما يستدعيها المرض المتوطن، مرض المثالية الخداعة التي تغذت بالتشدد منذ الظهور الأول للخوارج.

فعسى هذا النموذج الثلاثي المتمثل في الإصلاحات التي ترسون دعائمها، يا مولاي، وفي وازع السلطان الذي تمثله الضمانة الأمنية التي تنافحون بها عن استقرارنا وهويتنا، وفي وازع القرآن الذي يتعهده العلماء، عساه أن يفيد علماء الأمة جمعاء، وفي مقدمتهم علماء إفريقيا في آفاق عمل مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وعسى هذا النموذج أن يتعزز كذلك في السنوات المقبلة بالثمرات المنتظرة من الإصلاح الذي تباشرونه على صعيد جامعة القرويين، ولاسيما بتكوين خلف من علماء الأمة العدول.

أعز الله أمركم يا مولاي وأسعدكم بعلماء أمتكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

والختم من مولانا أمير المؤمنين.