الختمات أو الختم من العادات المحمودة، والسنن الكريمة المعهودة التي سجلها تاريخ الفكر الإسلامي، وعرفتها مراكز الثقافة بمناسبة انتهاء العالم أو الشيخ من تدريس فن من الفنون، حيث يُعقد مجلس حافل يسمى "بيوم الختمة" يكلل به مجالس الشيخ في الفن الذي يدرسه، من نحو أو فقه أو تفسير أو حديث، ويختم فيه الكتاب الذي درسه لطلبته وتلاميذه، بعد أن يستعد لختمته ويجتهد في اختيار موضوعه، مركزا على علومه ومعارفه، مفرغا كامل جهده وطاقته، ليكون مبرزا فيه بسبب حضور علماء البلد وشيوخها معه في ختمته، مما يدفعه لإظهار عبقريته ومقدرته العلمية، وخاصة في موضوع الختم أو الفن المختوم، وهذا ما يجعل الختمات بمثابة احتفال كبير بما تمتاز به من تبريز للعالم أو الشيخ في فنه، وبما يحاط به مجلس الختم من أهمية وتقدير، بحضور العلماء والكبار إلى جانب الطلبة، وقد يحضره في أحايين كثيرة الملوك والأمراء والكبار كما حدث في المغرب مرارا، بالإضافة على أن العادة جرت أنه قلما يتصدى للختم إلا المبرزون والنبغاء وكبار العلماء، فينهل الحاضرون من مختلف العلوم والمباحث في مجلس واحد جامع ماتع في الآن ذاته.
مكانة موطأ الإمام مالك:
يعتبر كتاب "الموطأ" للإمام مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله من بين كتب الحديث النبوي العظمى، التي تناولها العلماء والطلبة على حد سواء بالعناية، وكانت تعقد لختمه مجالس بدءا من مجالس قراءته على الإمام مالك في حياته، حيث كان ختم "الموطأ" يكلل بظهور نسخة جديدة أشد تنقيحا وأوفق فقها وأكثر تأصيلا، إلى أن صارت أحاديثه بضع مئات بعدما كانت عشرة آلاف. ويكفي في الدلالة على فضله وعظيم منزلته تفضيله على سائر كتب الحديث، حتى قال الإمام الشافعي في حقه: "ما في الأرض بعد كتاب الله كتاب أكثر صوابا من موطأ مالك بن أنس". ويعتبر كتاب "ختم الموطأ رواية يحيى بن يحيى"، للإمام والعلامة الشيخ جمال الدين أبي سالم عبد الله بن سالم بن محمد بن سالم بن عيسى البصري المكي الشافعي (ت 1134هـ )، تحفة في غاية الأهمية، لما تضمنه من درر حول "الموطأ"، الذي شغل العلماء منذ القديم، ولأن صاحبه ممن شهر فن تأليف كتب الختوم، إذ وصلت مؤلفاته إلى سبعة أختام، منها "موطأ" الإمام مالك بن أنس.
عناية المغاربة بالموطأ:
ومنذ أن اعتنق المغاربة المذهب المالكي، وكتاب "الموطأ" يحظى عندهم بوافر العناية؛ إذ تداولوه بالرواية والإقراء، وعكفوا على شرحه ووضع التعاليق عليه، واهتموا بحفظه والاستشهاد بأحاديثه، واستمرت هذه العناية جيلا بعد جيل إلى وقتنا الحالي. ومن بين كتب الختم التي ألفت عن "الموطأ" من لدن المغاربة كتاب "ختم الموطأ" لشيخ الجماعة بمدينة الرباط وأعلم علمائها في زمانه، الإمام المحدث الفقيه النحوي الأديب سيدي محمد المكي البطاوري (ت1337 هـ)، وهو تقييد وضعه العلامة البطاوري بمناسبة انتهائه من إقراء كتاب "الموطأ"، وضمّنه شرح آخر حديث من أحاديث "الموطأ"، وبيّن مناسبة الختم به، ثم أفاض في التعريف بـ"الموطأ" وكيفية تأليفه وسبب ذلك، وما ورد في التنويه بفضله والثناء عليه، ثم انتقل بعد ذلك لبيان فضل علم الحديث النبوي وشرف من اشتغل به. وفصّل رحمه الله القول في آداب طالب علم الحديث، التي يتوجب عليه التحلي بها، وأورد في ختام تقييده مجموعة من الأدعية والأذكار التي يحسن ختم المجالس بها؛ تكفيرا لما يقع فيها من الخطأ والزلل. وبالرغم من وفرة المصادر التي تناولت التعريف بكتاب "الموطأ" فإنه يمكن الجزم أن هذا التقييد له ما يميزه بينها، من تنوع مواضيعه، وصحة نقوله، وقوة استدلالاته واستشهاداته، وإشراقة أسلوبه.
ليس هذا الكتاب إلا نموذجا لدأب المغاربة في علاقتهم بكتاب "الموطأ"؛ وما يزال هذا الكتاب ينال عناية خاصة إلى يومنا هذا في مساجد المغرب، حيث تخصص له ختمات وينوّه بحفظته، كما تكلل تلك الختمات بتوزيع الهدايا والأعطيات، ويقام حفل خاص يحضره الأكابر والعلماء والطلبة، ويجعلون من الختم مناسبة للحديث عن الموطأ وأبوابه وفضله على غيره من الكتب، وعن صاحبه، ويختم المجلس بذكر الله تعالى والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم.