توثيق علماء الحديث النبوي لمرويات السيرة النبوية: قضايا ونماذج

ألقى فضيلة الأستاذ الدكتور إدريس الخرشافي أستاذ باحث بكلية الشريعة بفاس، وعضو اللجنة العلمية لمنصة محمد السادس للحديث الشريف، محاضرة علمية عبر منصة تيمس لفائدة الأئمة المرشدين والمرشدات، تحت عنوان: "توثيق علماء الحديث النبوي لمرويات السيرة النبوية: قضايا ونماذج".
0
توثيق علماء الحديث النبوي لمرويات السيرة النبوية قضايا ونماذجتوثيق علماء الحديث النبوي لمرويات السيرة النبوية قضايا ونماذج

تعريف التوثيق

عرف التوثيق الحديثي بكونه ضربا من ضروب الرواية وفق قواعد ومناهج محددة، والتوثيق عند المحدثين يتميز عن التوثيق عند المؤرخين، وعند المفسرين، وعند غيرهم ممن عنوا واهتموا برواية الخبر بصرف النظر عن مضمونه هل له تعلق بالشرع أم لا تعلق له به، وإنما هو خبر عام يستفاد منه في بضرب من أضرب الاستفادة.

أنواع التوثيق العلمي للسيرة النبوية

أولا بالتوثيق القرآني: النص القرآني كلام ربنا سبحانه وتعالى منه آيات تحدثت عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل البعثة وبعدها، وقبل الهجرة وبعدها.

مثال أول: التوثيق القرآني للهجرة النبوية: ذكرها القرآن الكريم ووثقها، ولم يتعرض لتفاصيلها، واكتفى بإشارات، ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال/30). [الأنفال: 30].

مثال ثان: التوثيق القرآني لغزوة حنين: القرآن لم يتوسع كل التوسع في ذكر تفاصيل هذه الغزوة، فقال في إثرها ربنا سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: 25-26].

ويرتبط بالتوثيق القرآني للسيرة النبوية توثيق علماء التفسير النقلي، وفي طليعتهم الإمام الطبري (ت310هـ) في دوانه الحافل جامع البيان. فكان رحمه الله كلما تناول واقعة من وقائع السيرة النبوية إلا أتى بمروياته المسندة على منهجه رحمه الله تعالى.

توثيق التاريخي للسيرة النبوية: وفي طليعة هؤلاء الإمام الطبري في كتابه تاريخ الملوك، ومنهم الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية.

توثيق الأخباريين للسيرة النبوية: الذين يشتغلون بالأخبار، ومنهم أبو الحسن علي بن محمد المدائني المتوفى سنة 224 ه. ومن كتبه في ذلك "أخبار قريش"، "وأخبار أهل البيت".

وهذا المنهج يغلب عليه كما قال الحافظ ابن الصلاح في مقدمته: الإكثار والتخليط فيما يروونه.

ثوثيق السيريين، أو (أهل السير): الذين يشتغلون بالسيرة النبوية، ومن أوائلهم محمد ابن إسحاق، وابن هشام وغيرهم.

توثيق الأدباء: وفي طليعة هؤلاء ابن عبد ربه في "كتاب الجمانة في الوفود".

التوثيق الحديثي للسيرة النبوية

 وهو من بين أنواع التوثيق للسيرة النبوية، وسنذكر قضايا وأمثلة تميز هذا المنهج، ثم نماذج لتوثيقهم للسيرة النبوية.

قضايا جعلت منهج المحدثين يتميز في توثيق السيرة النبوية:

القضية الأولى عدم القصد إلى توثيق السيرة النبوية كعلم مستقل:

لم يقصد المحدثون قصدا إلى توثيق السيرة، وإنما وثقوها وجمعوا مروياتها في عموم اشتغالهم بتوثيق ورواية كل ما يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يكاد يوجد كتاب مفرد في السيرة النبوية ألفه الإمام مسلم أو البخاري أو غيرهم، بل نجد بعض وقائع السيرة النبوية في ثنايا توثيق عموم الحديث. مثلا الجامع الصحيح للبخاري تحدث عن الوحي وعن الإيمان وعن العلم، إلى أن تحدث عن المغازي، وجعلها كتابا مستقلا من بين كتبه في الجامع الصحيح، وأفرد في مناقب الأنصار كتابا، وهكذا الأمر عند بقية المحدثين.

القضية الثانية التي تميز منهج المحدثين في توثيق السيرة عنصر الشرط:

عنصر الشرط: أهم ما يميز منهج المحدثين في توثيق السيرة: أي شروط المحدثين، شرط البخاري وشرط مسلم وشرط أبي داود وشرط النسائي وشرط الترمذي وشرط ابن ماجه.

 وذلك أن شروطهم كانت متفاوتة من حيث الصرامة أو التساهل.

وقد كان لإعمال الشرط عند المحدثين انعكاسا كبيرا جدا على مضمون الروايات المتعلقة بالسيرة النبوية التي دونت في كتب الحديث، وذلك أنهم لم يرووا كل الأخبار المتعلقة بالسيرة النبوية التي رواها غيرهم، بل اكتفوا برواية ما كان موافقا للشرط الذي التزموا به.

 وبذلك اختلف مضمون السيرة عند المحدثين ما بين متوسع ومختصر ومطول ومكتف بقدر معين من الرواية مما صح على شرطه.

أمثلة تميز منهج المحدثين في توثيق السيرة

مثال حدث خروج النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام إلى الشام في رحلة تجارية مع عمه أبي طالب:

هذا الحدث توسع في روايته أولئك الذين تساهلوا في الرواية، وفي طليعتهم الأخباريون والسيريون. ولم يذكر هذا الحدث من المحدثين سوى الإمام الترمذي، نقل الحدث وذكر فيه بعض التفاصيل، وأنكر عليه من المحدثين الإمام الذهبي ذكر بلال الحبشي في الرواية، إذ لم يكن لبلال أي ذكر في هذه المرحلة المبكرة جدا من تاريخ السيرة النبوة ...

 مقارنة توثيق المحدثين بالتوثيق القرآني

من مميزات هذا المنهج اختلافه عن التوثيق القرآني من حيث الورود، التوثيق القرآني متواتر، أما توثيق المحدثين للسيرة نجد جل أحاديثها وردت مورد الآحاد، بمعنى أنها ظنية الثبوت عكس القرآن الذي هو قطعي الثبوت.

وبالمقارنة بالتوثيق القرآني كذلك نجد أن السنة فصلت ما أجمل من القرآن وبسطت فيه القول.

مثال حدث الإسراء والمعراج: قال ربنا سبحانه وتعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1].

هذا الإجمال الذي في الآية فصل تفصيلا واضحا عند المحدثين، عند البخاري ومسلم وعند غيرهما.

ومن خصائص هذا التوثيق أنه أضفى على السيرة النبوية صحة وحسنا وقبولا، وجردها مما علق بها من روايات واهية أو ضعيفة أو مضطربة على مدار تاريخها.

هذا باختصار بعض الخصائص التي ميزت توثيق المحدثين للسيرة النبوية.

تقديم نماذج للتوثيق الحديثي للسيرة

نموذج أول التوثيق الحديثي لحدث الحصار الاجتماعي والاقتصادي الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعشيرته وقرابته من غير المؤمنين، واستمر ثلاث سنوات ابتداء من السنة السابعة للبعثة.

هذه المدة الطويلة لا تكاد تجد المادة الموثقة لها إلا عند السيريين والأخباريين، أما المحدثون ومنهم البخاري على سبيل المثال لم يذكر أحداث هذه المرحلة سوى في موضعين: أولهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد قدوم مكة: «منزلنا غدا، إن شاء الله، بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر».

الموضع الثاني في كتاب الحج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر، وهو بمنى: «نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر» يعني ذلك المحصب، وذلك أن قريشا وكنانة، تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب، أو بني المطلب: أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.

هذا النص وإن كان أكثر تفصيلا من الذي قبله إلا أنه لا يوغل في إيراد المعطيات المتعلقة بالواقعة من حيث: زمانها ومكانها وكيفية العيش خلالها كما فعل غيرهم ممن عني بتوثيق السيرة النبوية، كالسيريين والأخباريين وغيرهم على تساهل معلوم عندهم.

نموذج آخر:

في صحيح مسلم عن ابن عباس، أن ضمادا، قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة، يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد» قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعلى قومك»؟ قال: وعلى قومي، قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فمروا بقومه، فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة، فقال: ردوها، فإن هؤلاء قوم ضماد.

ويرد عليها مما هو مميز لمنهج المحدثين:

  • أن ضمادا كان بمكة لما سمع كفار قريش يقولون هو ساحر ومجنون.
  • وأن ضمادا أسلم فيها.
  • وأن حضور ضماد مكة معتمرا كان في الثامنة للبعثة كما ذكره غير واحد منهم سبط ابن الجوزي في كتابه " مرآة الزمان في تواريخ الأعيان".
  • وفي آخر الرواية يؤخذ منها أن الحدث كان بعد الهجرة، بدليل السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم ومرت على قوم ضماد فأخذوا منهم ما ذكر في الحديث.

وهذه الرواية بعد دراستها ومقارنتها بما جاء من الأخبار عن ضماد مع قومه ومع النبي صلى الله عليه وسلم، ومقارنتها بتاريخ السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أن الأمر هنا يتعلق بروايتين ضم بعضهما إلى بعض الإمام مسلم في صحيحه، بدليل ما رواه ابن سعد في الطبقات عن ابن عباس قال: قدم رجل من أزد شنوءة يقال له: ضماد مكة معتمرا، فسمع كفار قريش يقولون: محمد مجنون، فقال: لو أتيت هذا الرجل فداويته.. إلى أن قال: فخرج علي بن أبي طالب بعد ذلك في سرية إلى اليمن، فأصابوا إداوة، فقال: ردوها، فإنها إداوة قوم ضماد.

والشاهد في هذه الرواية قوله: فخرج علي بن أبي طالب بعد ذلك في سرية إلى اليمن، فأصابوا إداوة، فقال: ردوها، فإنها إداوة قوم ضماد.

نموذج آخر: التوثيق الحديثي للرحلة إلى الطائف التي كانت في العام العاشر من البعثة.

فيها تفصيل كبير لا تكاد تجده إلا عند السيريين والأخباريين، أما المحدثون فلم يتناولوها إلا يسيرا.

كما عند البخاري مثلا...: أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: "‌لقد ‌لقيت ‌من ‌قومك ‌ما ‌لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا".

هذه رواية الإمام البخاري اكتفى فيها بما يوافق منهجه وشرطه، أما باقي التفاصيل فرواها السيريون والأخباريون.

 وحينما يسكت المحدثون عن رواية لا يعني أنها لا تثبت بإطلاق، وإنما هي مخالفة لمنهجهم المبني على الشرط والصرامة في النقل.

نموذج آخر: إرهاصات النبوة، التي وقعت عند ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.

تجدها في كتب السيرة العامة التي لا تراعي الصحة ولا تشترطها، بل تروي كل نقل، ومما ذكرت، ذكرت تصدع إيوان كسرى، وغور بحيرة ساوى، وخمد نار الفرس، مما يسمى إرهاصات النبوة، وهي واردة عند غير واحد مثل الطبري في تاريخه، وأبو سعيد النقاش في "فنون العجائب"، وأبو نعيم في "دلائل النبوة"، وغيرهم.

ولا تكاد تجد شيئا من هذا في كتب الحديث المعتمدة كالموطأ وصحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرها، لأنها كلها تدور على راو واحد وهو هانىء المخزومي، فتارة تقول بعض الروايات أنه بلغ من العمر مائة وخمسين سنة، وتارة مائة وعشرون سنة، وهذا اضطراب، في المتن. ورواي هذه المتون لا ذكر له في كتب الصحابة، وهو يروي حدثا يتعلق بميلاده صلى الله عليه وسلم.

الخلاصة

والخلاصة أن توثيق علماء الحديث للسيرة النبوية يتعلق بما نسب للنبي صلى الله عليه وسلم ووافق شرطهم، وباعتبار هذا المنهج لم يدونوا من حديثها إلا ما كان صحيحا أو حسنا أو مقبولا أو ضعيفا ضعفا ينجبر. وهو الذي أفضى إلى مادة سيرية أقل حجما عندهم.

وعليه فإن الدارس للسيرة النبوية على منهج المحدثين لابد أن يستحضر هذه المعطيات والخصائص ليحسن استثمار المادة العلمية السيرية التي يذكرها علماء الحديث في مصنفاتهم ودواوينهم.