تمهيد
يشتمل هذا العرض كما يتبين من العنوان على بيان عملي إجرائي لمنهج المحدثين في النقد، وطرائقهم في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، يكون بمثابة الدليل العملي في هذا المجال.
وهو مشتمل على قواعد المحدثين المعروفة المعلومة، والمنصوص عليها في مظانها من كتب المصطلح المتداولة، لكن الغرض هنا هو عرضها بطريقة تصلح للاستعمال والتطبيق، بما يساعد على امتلاك الصناعة الحديثية، أو فهم حقيقتها على الأقل.
فعلم الحديث ليس علما نظريا تجريديا كما هو حال بعض العلوم، وإنما هو علم صناعي تطبيقي، لابد فيه من تحصيل الملكة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى عند أهل الاختصاص.
وحال هذا العلم وحال أصحابه ومؤسسيه في نشأته وعنفوانه يؤكد ذلك، فقد تأسس النظر عندهم في الأحاديث من هذه الناحية أي التصحيح والتضعيف على التمرس الشديد بأسلوب رسول الله في الكلام، وبالمضامين الواردة عنه في مختلف القضايا والموضوعات، بما أكسبهم القدرة على التمييز بين ما يصح أن ينسب له مما لا يصح، قبل البحث في الرجال والأسانيد، حتى صار عملهم كأنه كهانة، وليس هو في حقيقة الأمر إلا العلم الحقيقي بأصوله ومناهجه التي ينبغي أن يكون عليها، وهو الصدور في الحكم على الأحاديث -التي هي أمر نقلي- عن إحاطة تامة بالنصوص الحديثية، واستغراق في الحياة النبوية.
ولما انتقل هذا العلم إلى قواعد نظرية وأحكام تجريدية، في مراحله القوية، استجابة لعوامل موضوعية أهمها العامل التعليمي، وكان الذي قام بذلك عباقرة نوابغ بحق، لأن هذا أحد الأمور التي لا يقدر عليها كل الناس، فإن هذه القواعد لم تكن تعكس حقيقة المنهج الذي اشتغل به أولئك المؤسسون، ولا يمكن لها ذلك، لما هو معروف في خصائص التقعيد وإكراهاته، ولهذا غلب على هذا العلم اسم "المصطلح"، لأنه ركز في الغالب الأعم على المصطلحات والتعريفات والقواعد في عمومها، وليس في تفاصيلها وطريقة أجرأتها.
فكانت هذه هي آفته، أي إنه قنن العلم في صورة قواعد مجردة، خالية من مرونة المتقدمين، وبيان الكيفيات التي كانوا يُعملونها لتنزيلها.
وقد أدى ذلك إلى أن غدت هذه المؤلفات غير قادرة بمفردها على إكساب الصناعة، وتخريج المحدث المحصل للملكة، اللهم إلا إذا عمد المتعلم إلى مصنفات المتقدمين لبحث طرائقهم في إعمال تلك القواعد.
وهذا بالضبط هو ما أردنا القيام به في هذا العرض، الذي الغرض منه هو إعادة صياغة هذه القواعد في ضوء تطبيقات أولئك المتقدمين، بالرجوع إلى مصنفاتهم التي اشتغلوا فيها بإعمال المنهج النقدي.
وقبل الشروع في صلب الموضوع، نعرض بعض البيانات الأولية التي تجلي هذه الحقائق، وتقربها للأفهام:
- البيان الأول: إن الغاية الأساسية عند المحدثين كانت هي معرفة صدق الراوي في الحديث موضوع البحث لا غير، بحيث إذا تبين لهم أنه صدق في نقله لذلك الحديث حكموا بصحته، والعكس بالعكس، لكن لما كان الوقوف على ذلك صعبا، والتأكد منه في نقل الراوي متعذرا، لجأوا إلى اشتراط العدالة والضبط لكونهما أمارة على ذلك ووسيلة إليه ليس إلا، وبناء على ذلك لم يكن اشتراطهم لهاتين الصفتين باعتبارهما غاية، وإنما وسيلة فقط إلى غاية أساسية هي الأمن من وقوع الكذب في الحديث من الجهتين العمد والخطإ على السواء، ولهذا لما عرف الصحابة بعدم الكذب جملة، وبعدمه في الحديث خاصة حكم المحدثون بعدالتهم جميعا، وهم يقصدون صدقهم في نقل الحديث على وجه الخصوص، وإلا فإن فيهم من انثلمت عدالته بعمل من الأعمال ولاسيما في زمن الفتنة ومن تأخر إسلامهم على وجه الخصوص، ولكنهم لما لم يجرب عليهم كذب حكم بعدالة الجميع وبإطلاق، فينبغي استحضار هذا المعطى أثناء عملية التصحيح والتضعيف، وعدم الجمود على القواعد، واستلهام منهج المصنفين في الحديث ممن عانوا العملية من كثب، وكانوا المؤسسين لهذه القواعد.
- البيان الثاني: وهو متصل بهذا الأمر وله أهمية كبيرة، وفحواه أن نعرف أن تصحيح الحديث عملية دقيقة ومعقدة وشاملة، بحيث لا يمكن أن تجزأ فيها القضايا أو تفصل، ولا أن يعتبر فيها فقط حال الراوي وحده، أو حال المروي وحده، وذلك لأنها تقوم على جملة من القضايا والاعتبارات المتصلة ببعضها، والتي تخضع بموجبها كل الأحاديث والروايات للنظر والنقد، بحيث تبحث في ضوئها حتى أحاديث الثقات الكبار فتنكشف للناقد علل تجعل تلك الروايات مردودة غير مقبولة، وتبحث في المقابل أحاديث للمتكلم فيهم فتظهر صحتها وصوابهم فيها، وإنما تتم معرفة ذلك بفضل التبحر في هذا العلم واستقصاء الروايات وموازنتها، وبحث مدى صواب كل راو في حلقة الإسناد فيما نقله عمن فوقه بهذه الطريقة التجزيئية التفصيلية، إذ ليس الحكم على الراوي بالثقة يعني بالضرورة قبول كل رواياته، كما أن التضعيف للراوي ليس حكما على سائر رواياته بالرد وعدم القبول.
- البيان الثالث: أن يكون النظر في الحديث من خلال زاويتين اثنتين:
- الأولى: الإسناد، ونعني بها النقد الإسنادي الذي ينظر بمقتضاه في رجال السند، واتصال رواياتهم على أكثر من مستوى، وما إلى ذلك من الشروط المعروفة، كما ينظر في المتن لكن من زاوية الإسناد نفسه كما هو الحال في العلة والشذوذ من بعض النواحي.
- والزاوية الثانية: هي المتن، الذي ينبغي النظر فيه من حيث موافقته للنصوص القطعية، والقواعد المقررة، ومقتضيات العقل والحس والتاريخ.. وبحث مدى موافقته أو شذوذه من هذه الناحية المغايرة للمذكورة أعلاه.
واعتبارا لذلك سنسير في ترتيب هذه المعايير على هذا الأساس فنتناول ما يتعلق بالنقد الإسنادي أولا، ثم ننتقل بعده إلى معايير نقد المتن.
معايير النقد الإسنادي
للإسناد معايير وقواعد محددة منصوص عليها عند المحدثين في شروط الحديث الصحيح، وهي التي بتوفرها يصح الحديث ويقبل، وبانعدامها أو انعدام بعضها يضعف ويرد.
وحد الصحيح عند المحدثين: "هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا" حسبما نص على ذلك الحافظ ابن الصلاح في المقدمة، وقال: "ومتى قالوا هذا حديث صحيح فمعناه أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة"[1].
والأوصاف المذكورة التي يحكم بمقتضاها على الحديث بالصحة إلى جانب اتصال السند هي خلو الرواة من الجرح في جانب عدالتهم أو ضبطهم، وخلو الحديث من الشذوذ والعلة.
وبناء على ذلك يكون في هذه الأوصاف احتراز عن الأحاديث التي انخرم فيه شرط الاتصال كالمرسل والمنقطع والمعضل والمعلق والمدلس والمرسل الخفي، ويلحق بها ما في سنده راو مجهول، لأن السند صار في حكم المنقطع، بسبب الجهل بمدى أهلية الراوي للرواية، واحتراز أيضا عن الشاذ، وما فيه علة قادحة، وما في راويه نوع جرح سواء أكان في عدالته ودينه، أو حفظه وضبطه وإتقانه، وذلك أنواع كثيرة.
وسنتناول هذه الشروط والأنواع كلها بالبيان على أساس يصلح للتطبيق والإجراء.
الشروط المتعلقة بالإسناد
1- اتصال السند
أول ما ينبغي البحث عنه في الحديث شرط الاتصال، إذ المنقطع لا يحتج به (والمقصود بالانقطاع هنا معناه العام أي كل سقط في الإسناد)، والانقطاع يدرك من إحدى أربع جهات كما نص على ذلك ابن القطان رحمه الله[2]:
- الأولى: أن يعلم من تاريخ الراوي والمروي عنه أنه لم يسمع منه وهو أوضحها.
- الثانية: قول إمام من أئمة المحدثين هذا منقطع لأن فلانا لم يسمع من فلان فيقبل ذلك منه ما لم يثبت خلافه.
- الثالثة: أن يكون الانقطاع مصرحا به من المحدث مثل أن يقول حدثت عن فلان، أو بلغني إما مطلقا وإما في حديث حديث.
- الرابعة: أن توجد رواية المحدث عن المحدث لحديث بعينه بزيادة واسطة بينهما فيقضى على الأولى التي ليس فيها ذكر الواسطة بالانقطاع، لكن ليس ذلك على إطلاقه، وإن لم ينبه إلى ذلك ابن القطان.
وهذا الشرط احتراز كما مر عن المعلق والمنقطع والمعضل والمرسل، والمرسل الخفي وهو رواية الراوي عمن لم يلقه، والمدلس، وكلها من أنواع الضعيف إلا المرسل والمدلس إذا اعتضدا ولم يعرف المحذوف منهما فإنهما يصيران من قسم الحسن باعتبار المجموع.
وهناك قضايا في هذا الباب تحتاج إلى تفصيل منها:
الرواية بالعنعنة
أجمع جماهير المحدثين على أن قول الثقة "حدثنا فلان قال حدثنا فلان" دالة على الاتصال والسماع وأما قوله "عن فلان عن فلان" عنعنة ففيه خلاف، واختصارا للقضية وما فيها من آراء ومذاهب نرى أن الأولى أن يعمل فيها بمذهب من يرى قبولها بشرطين: البراءة من التدليس، وثبوت اللقاء بين المعنعن والمعنعن عنه، اعتمادا على مروياته وأحاديثه، وهو المذهب الذي ادعى ابن عبد البر والخطيب الإجماع عليه[3]، فإذا لم يثبت اللقاء بين المتعاصرين لا يقال الحديث منقطع، وإنما لم يثبت سماع فلان من فلان.
وإلا فقد يكتفى بمذهب الإمام مسلم -ورضيه كثيرون منهم ابن القطان وغيره- الذي اشترط السلامة من التدليس مع إمكان اللقاء فقط دون ثبوته إلا أن يدل دليل على عدم المعاصرة أو عدم السماع.
التدليس
التدليس في التعريف الدقيق أن يروي الراوي عن شيخ عرف لقاؤه له ولم يسمعه منه بعبارة توهم حصول السماع وهو أنواع[4].
والمدلسون كذلك أصناف وطبقات، فهناك تدليس الإسناد وتدليس الشيوخ[5] ثم تدليس التسوية[6]، ولا كلام هنا إلا عن النوع الأول، لأن النوعين الآخرين ليس لهما إلا حكم واحد هو الرد[7].
والأول أي تدليس الإسناد وهو الذي عني به المحدثون، فأحصوا أسماء من وصفوا به، وميزوا فيهم بين طبقات ومراتب، صورته أن يروي الراوي عن شيخ علم لقاؤه له وسماعه منه حديثا يعبر فيه بصيغة توهم أنه سمعه منه مع أنه لم يسمعه منه.
وباختلاف صيغ الأداء الموهمة للسماع تتعدد صور التدليس في هذا النوع إلى ثلاث صور:
- الأولى: أن يعبر بـ "عن" أو "أن" أو "قال" أو ما شابهها مسقطا الواسطة.
- الثانية : أن يسقط أداة الرواية أصلا، وقد سماه الحافظ ابن حجر تدليس القطع[8].
- الثالثة: أن يصرح بالتحديث عن شيخ له ويعطف عليه شيخا آخر له، ولا يكون سمع ذلك المروي منه، سواء اشتركا في الرواة عن شيخ واحد أم لا، ويسمى هذا تدليس العطف[9].
وأصح المذاهب فيه من الناحية النظرية أن يقبل من حديث المدلس ما صرح فيه بالتحديث والسماع دون ما عنعنه، وهو مذهب الشيخين في صحيحيهما.
وأما من الناحية العملية فالأمر يقتضي سلوك الإجراءات الآتية:
- 1 – أن يقبل ما عنعنه المدلس إذا ثبت سماعه له من طرق أخرى.
- 2 – أن يتحرى من حديث بعض المدلسين ما رواه عنهم من يميز سماعهم من تدليسهم من الرواة عنهم.
- 3- إذا لم يرد حديث المدلس الثقة إلا معنعنا احتاج إلى ما يقويه، فإن وجد كان الحديث حسناً لا صحيحاً.
- 4- قد يتسامح في التدليس فيقبل ممن اشتهر بالإمامة في هذا الفن، أو كان قليل التدليس في جنب ما روى، أو كان ممن لا يدلس إلا عن ثقة وخاصة في باب المتابعة والاستشهاد.
- 5- التمييز في المدلسين بين من تجنبوه في حق بعض الشيوخ بصفة خاصة كما قال البخاري: "لا أعرف لسفيان عن حبيب بن أبي ثابت، ولا عن سلمة بن كهيل، ولا عن منصور وذكر شيوخا كثيرين لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليسا ما أقل تدليسه"[10].
وتعتبر كتب الرجال مصادر أساسية للوقوف على هذه الدقائق، وبذلك يعرف أن التدليس ليس موجبا لرد كل روايات الراوي بإطلاق.
2- طرق التحمل والأداء
يتصل بهذا الشرط (شرط الاتصال) أمر في غاية الأهمية وهو حلقات الاتصال أي كيفية انتقال الحديث من الشيخ إلى الراوي وهو ما يصطلح عليه باسم "طرق التحمل والأداء" وهي من الأركان الأساسية في هذا المجال وفيه صور ثمانية هي: السماع، والقراءة، والمكاتبة، والمناولة، والإجازة، والوجادة، والوصية، والإعلام، بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، بناء على توفر شرط الاتصال فيها أو عدمه .
أما السماع فالإجماع على قبوله، والقراءة مساوية له فلها حكمه.
وأما المكاتبة فهي والمناولة سواء في جواز الرواية بهما، ويشتركان في لزوم اقترانهما بالإجازة والإذن، ولهذا فالإجازة إذا تجردت من المناولة أو المكاتبة لا تعد مقبولة ولا صحيحة، وبناء على ذلك لا تصح الوجادة ولا الوصية ولا الإعلام بسبب تجردها من الإجازة.
الشروط المتعلقة بالرواة
يشترط في راوي الحديث أن يكون ثقة، وهو في اصطلاح المحدثين كل من اتصف بصفتي العدالة والضبط، فلا يقال ثقة إلا لمن جمع بينهما بل لمن كان في الطبقة العليا من العدالة، ومقتضى ذلك أن لا يحكم على أي حديث بالصحة أو الضعف إلا بعد معرفة مدى تحققهما في رواته، فإذا ثبت في حق الراوي جرح معتبر من ناقد معدود من أهل هذا الشأن يفيد ضعف ما رواه هذا الراوي في الحديث الذي نحن بصدده حكمنا برد ذلك الحديث.
وهذا الكلام يشتمل على قيود مهمة هي:
- 1 - ضرورة التأكد من صحة الجرح الصادر في حق الراوي، فقد يكون ما ينسب إلى بعض النقاد من تجريح لأحد الرواة غير صحيح، فلا ينبغي الاعتماد عليه.
- 2 - أن يكون الحكم صادرا عمن هو من أهل الصناعة والتخصص، العارفين بأسباب الجرح والتعديل، وعمن تأهل لإصدار الأحكام في هذا الشأن، لا من يكون هو نفسه ضعيفا كالأزدي مثلا.
وألا يكون صادرا عن تعنت وتشدد أو تحامل، أو بسبب اختلاف المذهب والنحلة، أو كان حكمه نابعا من رأيه المجرد الذي قد لا يوافقه عليه الأكثرون، وذلك اعتبارا لكون الأئمة اختلفوا فيما يفسق به، ولهذا كان الشرط في الجرح أن يكون مفسرا.
- 3 - من علمت حاله في حمل العلم وتحصيله وأخذ الناس عنه، ونقلت لنا سيرته الدالة على صلاحه، أو عبر لنا بلفظ قام مقام نقل التفاصيل من الألفاظ المصطلح عليها لذلك كثقة ورضا ونحو ذلك لا يقبل من قائل فيه إنه لا يحتج به أو ما أشبه ذلك من ألفاظ التضعيف إلا أن يكون ذلك بحجة مفسرة[11].
- 4 - الأصل في التعديل والتجريح أن يكونا صادرين عمن هو معاصر للراوي، لكن حينما يتعلق الأمر بالضبط فيمكن الاعتماد فيه على غير المعاصر، لأن مجال البحث هو المرويات، وهي متاحة للنقاد في كل وقت، بشرط الإتقان والمعرفة.
- 5 - لابد من مراجعة أقوال الأئمة وتأملها والوقوف على سياقاتها لمعرفة المقصود الحقيقي لأصحابها منها، فكم من كلام لإمام تبين بعد تأمله أنه لم يرد به الجرح المطلق، وإنما ضعف الراوي في حديث بعينه مثلا.
- 6 - لابد من بحث أقوال العلماء واستقرائها لمعرفة هل تعود إلى واحد بالأصالة وإلى الآخرين بالتقليد، أم لا ؟ بحيث إذا كان الأمر على الاحتمال الأول فإن تعدد المجرحين لا يفيد شيئا.
1- عدالة الرواة
بشرط العدالة تنتفي الصحة عن حديث:
- أ- الكذاب: والمقصود به من يضع الحديث ويوصف بـ "الكذاب" أو "يكذب" أو "يضع"، وهذا القسم لا يكتب حديثه ولا يعتبر به، وأكثر أحاديث هذا القسم تدخل في الموضوعات، والموضوع قد يأتي تحت اسم الضعيف في كتب الأقدمين، لأنهم كانوا يطلقون الضعيف على الموضوع.
- ب- المتهم بالكذب: وهو من عرف بالكذب في كلامه، أو تفرد بالمخالف للقواعد العامة، ويسمى: "متروك" أو "متهم بالكذب والوضع" أو "ليس بثقة"، وقد يوصف بـ "الضعيف جدا" أو "واه بمرة" أو "لا يكتب حديثه"، وما سبق هو من حيث المرتبة أدنى من هذه لكنها جميعها مردودة، فكل متفق على تركه يرد حديثه إذا لم يكن يروى إلا من طريقه، وكل من عرف بكثرة رواية المنكرات يضعف.
- ج- الفاسق الذي ظهر فسقه ويسمى حديثه بالمنكر.
- د- المجهول بنوعيه: العين والحال وكل مجهول العين -وهو من لم يرو عنه إلا واحد- ضعيف الحديث، لكون الجهالة لا يتحقق معها وصف العدالة إلا أن يوثق.
وأما مجهول الحال ويسمى المستور -وهو من روى عنه اثنان فصاعدا ولم تعرف ثقته وأمانته- يتوقف فيه إلى حين استبانة حاله وذهب ابن القطان إلى تحسين حديثه[12].
- هـ – المبتدع: والكلام هنا عن البدعة غير المكفرة فقط، إذ المكفرة مردودة مطلقا، وتُجرى على المبتدعة غير المستحلين للكذب كالخطابية من الرافضة مقاييس الجرح والتعديل عليهم من دون النظر إلى بدعتهم، فيقبل منهم المعروف بعدالته وصدق لهجته والمشهور بالحفظ والإتقان، ويحتاج الداعية إلى أن تعتضد روايته بمتابع، وكذلك من يروي ما يوافق بدعته.
وهذا لا يتحقق إلا بعد استقصاء كل الطرق والأسانيد، وموازنتها وفحصها، ومعرفة مقدار الضبط ودرجة الإتقان حتى يوقف على حجم الموافقة أو المخالفة أو التفرد من الراوي عن غيره من الرواة.
2 – ضبط الرواة
القاعدة هي أن سوء الحفظ يناقض الثقة، هذا في الجملة، أما من حيث التفصيل فإن الرواة يقسمون باعتبار الضبط إلى ثلاثة أصناف:
- الأول: الحفاظ الذي يندر أو يقل الخطأ في حديثهم، وهؤلاء محتج به بالاتفاق، ويقال عن الواحد منهم: "أوثق الناس" أو "ثقة ثقة" أو "ثقة حافظ"، وقد يقال: "ثقة" أو "متقن"، وهؤلاء يقبل ما تفردوا به، إذ الأفراد لا تقبل إلا من الثقات المشهورين.
- والثاني: من هو صادق ويكثر في حديثه الوهم ولا يغلب، وعن مثله يقال: "صدوق" أو "محله الصدق" أو "لا بأس به"، وهذا يكتب حديثه وينظر فيه، ومتى توبع حديثه بمعتبر صار حسنا بالمجموع.
- والثالث: من لا يتهم لكن الغالب على حديثه الوهم والغلط، وهذا ينظر فيه اعتبارا، وأكثر ما يوصف به هؤلاء: "لين الحديث" "ليس بقوي" ودونها "ضعيف" أو "منكر الحديث" أو "ضعفوه".
أما لفظة "شيخ" فليست بتضعيف وإنما هي إخبار بأنه ليس من أعلام هذا الشأن، أي هو شيخ وقعت له روايات أخذت عنه.
واعتبارا لهذا الشرط (شرط الضبط) قد ينزل الحديث من درجة الصحة إلى الحسن في حالتين اثنتين:
- الأولى: إذا خف ضبط الراوي، أي كان من الصنف الثاني بحسب التقسيم المتقدم.
- والأخرى: إذا كان الراوي مختلفا فيه، بحيث وثقه قوم وضعفه آخرون بجرح غير مفسر عد حديثه حسناً، أما من لم يوثقه أحد ورمي بنوع ضعف فهو ضعيف.
وهذا الشرط كذلك احتراز عن أنواع تخرج من الصحيح إلى الضعيف بفقده، منها:
- المعلل: وهو الذي اطلع فيه على وهم راويه بوصل مرسل أو منقطع، أو إدخال حديث في حديث، أو نحو ذلك مما سيأتي في باب العلة.
- الشاذ: ويدخل فيه المدرج بنوعيه مدرج الإسناد ومدرج المتن، والمقلوب، والمزيد في متصل الأسانيد، والمضطرب، والمصحف، والمحرف على ما سيأتي في باب الشذوذ.
ويجب التنبه في قضية الضبط إلى أنه لا يكتفى فيه بالضبط العام، وإنما لا بد من النظر في الضبط الخاص، أي مراعاة حال الراوي الضابط في شيخه خاصة وذلك بعد أن يثبت ضبطه مطلقا، فإذا كان الراوي مثلا يخطئ عن أحد الشيوخ فلا يقبل منه إلا ما يتابع عليه دون ما يتفرد به.
كما يجب التمييز في أحاديث الراوي بين ما أنكر عليه وما لم ينكر، فنرد الأول دون الآخر، متى ما تحققنا من ضبطه له بمقتضى الأدلة والقرائن، أو أن نترك الجميع إذا لم نستطع التمييز، وهذه قاعدة عامة فمن لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه أنه يترك حديثه.
أما صنف المختلطين من الرواة أي الذين تغير ضبطهم فاختل في آخر عمرهم فهؤلاء لنا معهم مسالك:
- أولها: أن يتحرى من حديثهم ما كان قبل الاختلاط، وضابط ذلك ما رواه القدامى من أصحابهم عنهم فقط دون المتأخرين.
- والثاني: أن يتحرى من حديثهم ما توبعوا عليه دون ما تفردوا به.
- والثالث: أن ينتقى من حديثهم فيحتج بما تبينت صحته بالقرائن، ويترك ما سواه، فالراوي على هذا وإن كان ضعيفا فقد تقبل بعض رواياته بعد انتقائها وتبين صحتها.
وهناك من الرواة مَن الآفة في حديثه من راو معين عنه لا منه، فلا ينبغي التسرع بتضعيفه، وذلك مثل عيسى بن طهمان، وثقه أحمد وابن معين والنسائي وأبو حاتم ويعقوب بن سفيان والدارقطني وغيرهم، لكن قال العقيلي: "لا يتابع، ولعله أتي من خالد بن عبد الرحمن"[13]، يعني الراوي عنه.
الشروط المتعلقة بالإسناد والمتن معاً من خلال النقد الإسنادي
1 – عدم الشذوذ
الشذوذ مانع أساسي من الحكم على الحديث الذي وجد فيه بالصحة والقبول، وله ركنان أساسيان هما: التفرد ثم المخالفة، لكن من الثقة وليس من مطلق الرواة، وتتصل به أنواع منها: الشاذ، والمنكر، وزيادة الثقة، والمدرج بنوعيه إسنادا ومتنا، والمقلوب، والمزيد في متصل الأسانيد، والمضطرب، والمصحف، والمحرف.
ولدى المحدثين ميل إلى الشهرة بشكل عام ونفور من الغرابة والتفرد، ولأجل ذلك يعتبر التفرد أهم الوسائل إلى معرفة العلة في الحديث.
والموقف من التفرد ينبني على مراعاة أمرين أساسيين، أولهما: المخالفة أو عدمها، والآخر: حال الراوي ومؤهلاته من الثقة والضبط والإتقان، فليس التفرد مع المخالفة كالتفرد بدونها، وليس التفرد سواء مع المخالفة أو بدونها من الضابط المتقن كالتفرد من الضعيف.
وعلى أساس مراعاة هذه الأمور تنقسم التفردات إلى قسمين اثنين:
- 1 – الحديث الفرد الذي ليس فيه مخالفة، وهو يضم الفرد المطلق والفرد النسبي.
- 2 – الحديث الفرد الذي فيه مخالفة، وهذا يضم الشاذ، والمنكر، وزيادة الثقة، والمدرج سندا، والمدرج متنا، والمقلوب، والمزيد في متصل الأسانيد، والمضطرب، والمصحف، والمحرف.
والتفرد في حد ذاته ليس علة، وإنما هو قرينة دالة على خطإ أو وهم بعض الرواة.
1 – الشاذ
الشذوذ ما وقعت فيه المخالفة مع عدم الضعف، فراوي الشاذ ثقة أو صدوق، وذلك لأن المخالفة لها ثلاثة أحوال: فإما أن تقع من الراوي الذي هو في الدرجة العليا من الحفظ والإتقان، وهذه محتملة مقبولة، شريطة أن لا يخالف من هو أرجح منه، وإلا كان حديثه شاذا.
وإما أن تقع من الراوي الذي هو في الدرجة الوسطى، وهذه يحكم لها بالحسن، ولا تعتبر صحيحة.
أو أن تقع من الراوي الذي هو في الدرجة الدنيا، وهذه ترد وتعد شاذة.
ويدخل تحت الشاذ الأنواع الآتية:
- أ- المدرج:
وهو على نوعين: مدرج الإسناد، ومدرج المتن، فالأول: ما خالف فيه الراوي غيره بتغيير سياق الإسناد، بأن يروي جماعة الحديث بأسانيد مختلفة مثلا، فيجمع هو الكل على إسناد واحد من تلك الأسانيد ولا يبين الاختلاف، في صور أخرى غير ذلك.
ومدرج المتن أن يخالف بزيادة كلام في المتن ليس منه في أوله أو أثنائه أو آخره، أو بدمج موقوف بمرفوع من غير فصل.
- ب – المقلوب:
ما كانت فيه المخالفة بتقديم أو تأخير في الأسماء في باب الإسناد أو في المتن.
- ج - المزيد في متصل الأسانيد:
ما كانت فيه المخالفة بزيادة راو في أثناء الإسناد من راو يقل ضبطه عمن لم يزدها.
- د - المصحف:
ما وقعت فيه المخالفة بتغيير حرف أو حروف مما يتعلق بالنقط مع بقاء صورة الخط في السياق.
- هـ - المحرف:
مثله لكن في الشكل لا في النقط.
2 – المنكر
المنكر هو ما وقعت فيه المخالفة من ضعيف، وهو مردود على كل حال.
3 – زيادة الثقة
بين زيادة الثقة والشذوذ علاقة عموم وخصوص، وذلك لأن كثيرا من زيادات الثقات يمكن أن توصف بالشذوذ إذا كانت فيها مخالفة، ولكنها متى ما خلت منها لا توصف بذلك، فمن هنا كانت الزيادة أمرا عاما والشذوذ خاصا لأنه لا يطلق إلا على ما فيه مخالفة.
وتنقسم زيادة الثقة إلى قسمين:
- الأول: ما كانت الزيادة فيه في متن الحديث.
- والآخر: ما كانت الزيادة في إسناده.
- أ – الزيادة في المتن:
ليت زيادة كل ثقة في الإسناد أو المتن مقبولة، وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن أي المبرز، شريطة أن لا تكون فيها مخالفة لمن هم أكثر عددا من الراوي لها أو أضبط، فإذا كانت مخالفته لمن هو أوثق وأحفظ أو أكثر عددا كانت مردودة ، اعتبارا لكون العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد.
والقضية لا تحكمها قاعدة مطلقة، وإنما لكل زيادة حكمها المستقل بحسب القرائن.
- ب- الزيادة في الإسناد:
تخضع زيادة الثقة في الإسناد لنفس القاعدة السابقة أي ليس هناك قانون مطلق ولا عام يمكن جعله أساسا نقديا في هذا الباب، بحيث يقضى بتقديم حديث الواصل على المرسل، أو ترجيح المرفوع على الموقوف، وإنما من أرسل من الثقات إن كان أرجح ممن وصل قدم، وكذا بالعكس، اعتمادا على القرائن التي تعني من بين ما تعني ملاحظة واستقراء ضبط الثقة بمراعاة الأحوال والأزمنة والأماكن والشيوخ، وهذه القرائن تختلف بالنسبة للراوي الواحد وإن كان ثقة من حديث لآخر، فهي إذن أحكام جزئية تفصيلية تتعلق بكل حديث على حدة.
2 - عدم العلة
المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهرة السلامة منها ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر"[14]، وهذا يدل على ما يأتي:
- 1- أن العلة لا تعني تلك الأمور الظاهرة التي تطعن في صحة الحديث، كضعف الراوي أو انقطاع الإسناد أو ما شابههما، وإنما تتعلق بأمور خفية غامضة لا تدرك بسهولة وهي مما يصعب معرفته عادة على المحدث العادي.
- 2- تنحصر العلة في أحاديث الثقات المستجمعة لشروط الصحة الظاهرة التي يقدر على معرفتها المحدث العادي مما يتعلق باتصال السند وضبط الرواة وعدم الشذوذ، فالعلة هي في حقيقتها اختلال لهذه الشروط في المستويات الأدق.
- 3- الشرط في العلة الموجبة لرد الحديث أن تكون قادحة في صحته إذ من العلل ما ليس بقادح، ولقد أورد الحاكم النيسابوري عشرة نماذج للعلة القادحة هي:
- 1- أن يكون السند ظاهره الصحة، وفيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه.
- 2- أن يكون الحديث مرسلا من وجه، رواه الثقات الحفاظ ويسند من وجه آخر ظاهرة الصحة.
- 3- أن يكون محفوظا عن صحابي ويروي عن غيره لاختلاف بلاد رواته كرواية المدنيين عن الكوفيين.
- 4- أن يكون محفوظا عن صحابي ويروى عن تابعي يقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحبته بل لا يكون معروفا من جهته.
- 5- أن يكون روي بالعنعنة وسقط منه رجل دل عليه طريق آخر محفوظ.
- 6- أن يختلف على رجل بالإسناد وغيره، ويكون المحفوظ عنه ما قابل الإسناد.
- 7- الاختلاف على رجل في تسمية شيخه أو تجهيله.
- 8- أن يكون الراوي عن شخص أدركه وسمع منه ولكن لم يسمع منه أحاديث معينة.
- 9- أن تكون طريقه معروفة يروي أحد رجالها حديثا من غير تلك الطريق فيقع من رواه من تلك الطريق – بناء على الجادة – في الوهم.
- 10- أن يروى الحديث مرفوعا من وجه موقوفا من وجه آخر[15].
والعلة تدرك بوسائل أهمها التفرد والمخالفة، قال ابن الصلاح: "ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو إدخال حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك .." [16].
وحيث إن معرفة التفرد والمخالفة لا تتم إلا بعد جمع الطرق واستقصاء الروايات والأسانيد، فإن الماهر في ذلك المتمكن منه هو المؤهل لإصدار الحكم فيه.
ويعتبر علم العلل المحطة الأخيرة التي ينبغي الوقوف عندها في البحث عن صحة الحديث أي بعد الانتهاء من بحث كافة الشروط، ولذلك كان خلاصة كل علوم الحديث، وملتقى سائر العناصر النقدية، سواء منها ما يتعلق بالرواة أو بالمتون أو بطرق التحمل والأداء..
طرق معرفة العلة في الحديث
- 1- حصر أنساق الرواية وتحديد من سمع منهم الراوي ومن لم يسمع منهم.
- 2- التفرد والمخالفة: وهذه أهم طرق معرفة العلة، وهي تقتضي أمورا منها:
- أ- تتبع الأسانيد وإحصاء الروايات: وذلك بغرض الوقوف على التفرد وتعيينه، وبيان وجوه الاختلاف والاتفاق بين الرواة في الأسانيد والمتون على حد سواء، فيما يتعلق بالوقف والرفع والوصل والإرسال وغير ذلك، وصيغ الأداء، أي ما يدل منها على السماع وما لا يدل.
- ب - معرفة مراتب الرواة باعتبار الشيوخ والأزمنة والأمكنة: وذلك لمعرفة من يمكن قبول تفرده ممن لا يقبل.
بماذا يعلل الحديث؟
يعلل بأحد الأمور الآتية:
- 1- تعليل ما أدرج فيه الراوي على سبيل الوهم رواة في الإسناد ليس الحديث من طريقهم، وهنا يدخل المدرج، وقد سبق بيانه في باب الشاذ، لأنه كما يندرج تحته هناك يندرج تحت هذا هنا.
- 2- تعليل الطريق الزائدة بالناقصة.
- 3- تعليل الطريقة المسندة بالمرسلة.
- 4- التعليل بالاختلاف، ويدخل فيه من بين ما يدخل المضطرب، وحدُّه: أن يروي من لا يوثق بحفظه الحديث على وجهين أو أكثر، كأن يرويه تارة مرسلا وتارة موصولا، ثم ينعدم المرجح، لكن ليس كل اختلاف من الراوي يعد اضطرابا، لأن كثيرا من الرواة كانوا يتفننون في الرواية بالوصل والإرسال والرفع والوقف وليس يضير ذلك الحديث إذا كان من ثقة، لأنه قد يذاكر به من دون إسناد، فإذا حدث به من كتابه أو من حفظه على معنى التحمل والتأدية حدث به بسنده.
- 5- التعليل بعدم السماع.
- 6- التعليل بإسقاط راويين أحدهما ضعيف.
وبتأمل هذه الأنواع يتبين ما يأتي:
- أ- أن دواعي التعليل غالبا ما تعود إلى الاختلاف، فهو الذي ينبغي أن يشُد الانتباه إلى أن هناك وهماً ما، أو علةً ما، لكنه يبقى من أهم دلائل العلة وليس علة في حد ذاته، بل قد يكون من قوة الخبر وشهرته وتحدث الناس به أن يروى تارة متصلا وتارة مرسلا أو منقطعا، فجعل ذلك من علل الأخبار شيء لا معنى له، وبناء على ذلك يحتاج الأمر إلى فحص كل القرائن في كل حديث، وليس في المسألة شكل ثابت ولا قاعدة مطلقة[17].
- ب- إن للاختصار وللرواية بالمعنى وللإدراج أثراً كبيراً في تغيير متن الحديث مما يكون سبباً في تعليله في بعض الأحيان، وهذا إذا خالف المتن الأصلي للحديث.
معايير نقد المتن
المقصود بهذه المعايير تلك القواعد التي ينظر على أساسها في المتن بمعزل عن الإسناد، أو بالأحرى بعد أن يصح من الناحية الإسنادية التي انتهينا من تحديد معاييرها، وذلك حتى لا نقع في خطإ تصحيح ما لا يمكن تصحيحه، فقد يصح الحديث من الناحية الإسنادية ولكن متنه مشتمل على معان لا يمكن قبولها أو العمل بها.
هذا وقد مر في باب النقد الإسنادي كثير من عناصر نقد المتن في باب الشذوذ والنكارة والعلة، بحيث ترد كثير من الأحاديث جراء النظر في متونها من تلك الناحية، فلا ينبغي إغفالها.
ثم يضاف إلى ذلك اعتبار هذه المعايير الخاصة بالمتن، والتي يمكن حصرها في خمسة عناصر، هي:
- 1- أن لا يكون المتن مناقضا لحكم القرآن قطعي الدلالة، وهذا قيد أساسي لأنه إذا تعارض مع ظني الدلالة لا يرد.
- 2- أن لا يكون مناقضا للسنة المتواترة، وهذا قيد آخر يضاف إلى جانب القيد المذكور أعلاه، والأمر هنا يعني المعارضة لما هو متواتر وقطعي الدلالة، وإلا لم يؤثر.
- 3- أن لا يكون مناقضا للإجماع القطعي، لكونهم جعلوا الإجماع دليلا على وجود الناسخ في حال معارضته للصحيح.
- 4- أن لا يكون مناقضا للقواعد المقررة أو لمقصد مقطوع به من مقاصد الشريعة.
- 5- أن لا يكون مناقضا لصريح العقل، أو الحس والمشاهدة والواقع، أو لقطعيات التاريخ.
ونعني بالمناقضة التعارض التام الذي مهما حاولنا دفعه لا يندفع، ومهما حاولنا تأويله لا يقبل التأويل، ونشدد على قيد القطعي في كل ما ندعي مخالفة الحديث له، وإلا فتح الباب على مصراعيه لكل متلاعب بالشريعة.
ويستعان على إدراك ذلك أو بعضه بجملة من الأمور، منها:
- ركاكة اللفظ بشكل لا يليق بسيد الفصحاء وأكمل البلغاء.
- فساد المعنى بناء على مخالفته لما سبق، أو لاشتماله على ثواب عظيم مقابل فعل صغير، أو وعيد شديد على ذنب حقير.
- موافقة الحديث لمذهب الراوي المتعصب لمذهبه المغالي فيه مع وجود ما يعارض ذلك.
- اشتماله على معنى يستبعد صدور مثله عن النبي a، إما لمنافاته لكلام النبوة، أو لشبهه بكلام اللاحقين، أو لتنصيصه على تاريخ بعينه، أو لاشتماله على عبارات الأطباء ووصفهم.
- اشتماله على فعل يدعى على النبي a أنه فعله بمحضر من الجم الغفير من الصحابة ثم لا ينقله إلا واحد.
حكم الحديث الذي تبينت مخالفة متنه لما ذكر:
بعد النظر بكل روية وتثبت في متن الحديث من خلال المعايير المتقدمة إذا تأكد أنه يعارضها مع انعدام كافة السبل للتأويل أو التوفيق فإن أقل ما يمكن أن نحكم به هو أن نتوقف في العمل به فلا نجيزه، وقد نحكم بوضعه اعتبارا لدرجة مناقضته ونوع الأدلة على ذلك.
ونذكِّر هنا بأن مجال البحث في هذا المضمار هو الأحاديث الصحيحة غالبا لأن الضعيفة ترد لضعفها في البداية، وقد يكون متنها وما اشتمل عليه من النكارة سببا في ذلك أيضاً.
هذه هي مجمل القواعد والمعايير التي يجب نقد الأحاديث على أساسها، وإجراء عملية التصحيح والتضعيف بناء عليها.
وقد كان الغرض هنا محاولة صياغتها بشكل إجرائي يصلح للتطبيق والاستعمال، لإصدار الحكم الموافق لعمل الأئمة المعتبرين في هذا المجال، وهي قابلة على كل حال لمزيد من النظر والتدقيق والتطوير.
[1] - مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ص11
[2] - في كتابه بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام، تحقيق: د. الحسين آيت سعيد، الرياض: دار طيبة -
الطبعة : الأولى ، 1418هـ-1997م، ج2: 371
[3] - التمهيد لابن عبد البر ج1: 12-13، والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 328
[4] - هكذا هو عند الشافعي وابن عبد البر وابن القطان والعراقي وابن حجر
[5] - أن يروي الراوي عن شيخ حديثا سمعه منه فيسميه أو يكنيه أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف (انظر مقدمة ابن الصلاح 66- وانظر الكفاية 38)
[6] - تدليس التسوية: صورته أن يجيء المدلس إلى حديث سمعه من شيخ ثقة وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة، فيعمل المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول فيسقط منه الشيخ الضعيف، ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل كالعنعنة ونحوها، فيصير الإسناد كله ثقات، ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه، لأنه قد سمعه منه فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل، (انظر التقييد والإيضاح للحافظ العراقي: ص 96 - وبيان الوهم والإيهام لابن القطان: 5: 499)
[7] - تدليس الشيوخ هو الجنس الثاني من أحاديث الثقات التي لا يجوز الاحتجاج بها عند ابن حبان في مقدمة المجروحين ج1: 91 وتدليس التسوية هو الجنس السادس عنده ج1: 94.
[8] - فتح المغيث للسخاوي: 1: 183
[9] - المصدر نفسه: 1: 184
[10] - جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي: 113- شرح علل الترمذي لابن رجب: 389- النكت على ابن الصلاح لابن حجر: 2: 631
[11] - انظر بيان الوهم والإيهام لابن القطان ج 5: 370.
[12] - بيان الوهم والإيهام ج4: 13
[13] - الضعفاء الكبير للعقيلي، أبي جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد ا المكي (المتوفى: 322هـ)، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، بيروت: دار المكتبة العلمية - الطبعة: الأولى، 1404هـ - 1984م، ج3: 385
[14] - مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث81
[15] - انظر معرفة علوم الحديث 112 تدريب الراوي 1: 258
[16] - مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث81-82
[17] - انظر بيان الوهم والإيهام لابن القطان ج5: 438