الصحابة والنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

0

الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله الطيبين الطاهرين وصحابته الخيرين وبعد، فإن الله تعالى شرف صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم بشرف الصحبة، وأكرمهم بمنيف الرتبة، فقد شاهدوا التنزيل، وعرفوا أسبابه، ومعانيه، وحضروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه وفهموا مراده، وسألوا عما فاتهم من علمه وعملوا به، وتأسوا بأحواله، ونقلوا ما تعلموه منه بكل أمانة؛ واهتموا بسنته خاصة أيما عناية، لما تفردت به عن القرآن، فقد تفرق مادتها بين الصحابة، وإن كان مجملها معمولا به مشهورا، ولكون فقهها لا يدركه إلا الفقهاء. فسلكوا في نقلها مسلك الاحتياط، وأنزلوا الأحاديث منازلها، وقدموا السنن المشهورة وأعلوا من شأنها. وبرز في هذا الخلفاء الراشدون منهم، فكيف كان تلقيهم عن النبي وما هي خصوصيته؟ وما هي معالم مسلكهم في النقل؟ وماهي ضوابط؟

أولا: فضيلة التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وطرقه.

تعتبر المشاهدة للأحوال ومعرفة مناسبات الأقوال والأفعال، وطول المصاحبة، والتأسي، من أهم طرق التلقي ووسائل الفهم، وتثبيت العلم، وإدراك مقاصد الخطاب، وقد حصل لجيل الصحابة كل هذا؛ ومن شواهد ذلك أن مجموعة من الشباب وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منه أحكام الشريعة ومقاصدها، وكيفياتها من هديه وطريقته، ولينذروا  قومهم إذا رجعوا إليهم؛ أخرج البخاري في صحيحه عن مالك بن الحويرث قال: "أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا، سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه، قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم"[1].

ومن ذلك أن من خفي عليه حكم مسألة ما يرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله أو يسأل بنفسه ففي صحيحه عن عمر بن أبي سلمة: أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: أيُقبِّل الصائم؟ فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: سلْ هذه، لأمِّ سلمة فأَخبرتْه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك...»[2].

ومن ذلك أنه قد يشكو إليه أحدهم ما ينوبه من ضرر من فعل غيره، فيكون في ذلك تعليم لكل الناس وتحذير من ذلك السلوك الضار؛ أخرج البخاري في صحيحه عن أبي مسعود الأنصاري قال: "قال رجل يا رسول الله لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا من يومئذ، فقال أيها الناس إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة"[3].

ومن ذلك أن بعض الصحابة يتناوب مع غيره على مجالس النبي صلى الله عليه وسلم طلبا للعلم إذا كان له ما يشغله، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عمر قال: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك"[4] .

كما كان صلى الله عليه وسلم يخطب في الناس جميعا في المناسبات، ويعقد مجالس للعلم بين الحين والآخر، حتى لا يسأم الناس أو يتركوا واجبات أخرى، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي وائل قال: "كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها، مخافة السآمة علينا"[5].

ففي هذه النماذج يظهر لنا أن التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن يكون موضوعه القرآن، أو السنة والأحكام، ويكون إما مباشرة أو بواسطة ناقل لخبره، ولا شك أن من تلقى العلم شيئا فشيئا، مع تقديم الأهم وما يبنى عليه عمل، والملازمة والمصاحبة اليومية سيكون صاحب فهم، وأقدر على الاستحضار والتذكر، وأعلم بالمقاصد ومخارج الأحكام.

ثانيا: ضوابط النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم

ورغم ما توفر للصحابة من دواع إيمانية، ودواعي الحفظ لما تحملوه من علم، وما ساعدهم من أسباب التفقه لما سمعوه، فقد شدد رسول الله في النقل عنه، ووضع له ضوابط منها:

1)                  التحذير من الكذب عليه: فالكذب خلق مذموم في كل الأعراف والشرائع، لكن الكذب على صاحب الرسالة أشد لما فيه من إفساد للدين، ففي الصحيح أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"[6] ، فتبين من هذا الحديث المتواتر عن الصحابة خطورة الكذب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عملوا به فأقلوا من الرواية خوفا من أن يوقعهم الإكثار في الكذب أو أن ينسب إليه ما لم يقله؛ ففي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «إني ليَمْنَعُني أن أحدِّثكم حديثاً كثيراً: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: مَن تعمَّد عليَّ كذباً فليتبوأ مقعده من النار»[7].

2)                  التثبت مما يرويه الراوي عنه: وأوجب عليه السلام التثبت قبل التحديث بالحديث فقد أخرج مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حدَّثَ عنِّي بحديث يُرى أنه كذب، فهو أحد الكاذِبَيْن»[8]، ففي هذا الحديث الوعيد لمن روى حديثا لم يتبين صدقه.

3)                  مراعاة حال المتلقي من الفهم والخبرة:  إن النبي عليه السلام حدث بأحاديث وما كان يريد لها أن تنتشر بل خص بها قوما يفهمون مقاصدها، وألزمهم بألا ينشروها، فالتزم الصحابة بذلك، ففي الصحيح عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه قال لمعاذ: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار، قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: لا، إني أخاف أن يتكلوا" وأخبر بها معاذ عند موته تأثما[9]، وبوب عليه البخاري رحمه الله بقوله: باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا". ولقد تحقق خوف النبي عليه السلام لما رويت أحاديث لغير أهلها فأدت إلى فتنة عظيمة، ومن ذلك حادثة ابن الزبير عندما أعاد بناء الكعبة بناء على خبر كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتكتم عليه ولا تسر به إلا لأهل الدراية؛ فقد أخرج البخاري "أن الأسود بن يزيد قال: قال لي ابنُ الزبير: كانت عائشةُ تُسِرُّ إليكَ كثيراً، فما حدَّثَتْكَ في الكعبة؟ قلت: قالت لي: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: يا عائشةُ، لولا أن أهلَكِ حديث عهدهم، قال ابن الزبير: بكفر، لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس منه، وباب يخرجون منه، ففعله ابن الزبير"[10] وقد نجم عن هذا العمل فتنة أدت إلى قتله[11]، ثم هدمت الكعبة مرة أخرى وأعيد بناؤها على الشكل الذي تركه النبي عليها. وهذه مخاطر تنجم عن العمل ببعض الأحاديث التي تنقطع عن سياقها وتجهل مقاصدها. فهذه الضوابط هي التي أطرت نقل الصحابة رضي الله عنهم.

ثالثا: مسالك الصحابة في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

لقد حض النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على تبليغ حديثه فقال : «نَضَّر الله امرءاً سمع منَّا حديثاً فحفظه، حتى يُبلِّغَه غيرَه، فَرُبَّ حاملِ فقْه إلى مَن هو أفْقَهُ منه، ورُبَّ حامل فقْه ليس بِفَقيه»[12]، وقال عليه السلام: "بلغوا عني ولو آية"[13]، وكانت الحاجة إلى النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماسة، سيما في الأحكام والشرائع، لأن الصحابة لم يكونوا على قدر واحد في العلم ومعرفة السنن، وإن معرفة الصحابة بمخارج حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقاصده، وخوفهم الشديد من التزيد فيه، أو وضعه في غير موضعه، أو التقصير في الفقه فيه، أو التشويش على الأصول والسنن المشهورة، بالأحاديث الخاصة والغريبة جعلهم يسلكون مسالك الاحتياط والتحري، في نقل الأحاديث، نجملها في ستة وهي:

1: تقديم العناية بكتاب الله تعالى على رواية الأحاديث

لقد سلك الخليفة الفاروق مسلك تقديم حفظ كتاب الله والعناية بفهمه على رواية الأحاديث، ويدل على ذلك واقع الصحابة وكثرة القراء فيهم، وكذلك وصيته للوفد الذي بعثه للكوفة يوم بناها، جاء في سنن الدارمي وغيره قوله رضي الله عنه للوفد: "إنكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز المرجل، فإذا رأوكم مدوا إليكم أعناقهم، وقالوا: أصحاب محمد، فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا شريككم»[14]. وقد فسر ابن عبد البر صنيعه هذا بأن لا يروي أحد إلا ما حفظه وأتقنه[15]، وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: لأنه خاف أن ينكلوا عن الأعمال، ويتكلوا على ظاهر الأخبار، وليس حكم جميع الأحاديث على ظاهرها، ولا كل من سمعها عرف فقهها"[16].

2: الإقلال من الرواية

الإقلال من الرواية منهج سلكه جمع من الصحابة رغم طول صحبتهم، خوفا من الوقوع في الكذب، والخطأ، ولم يكن منهم مكثرا إلا عدد قليل، وخاصة من طال عمرهم، ومن شواهد ذلك ما أخرج البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: قلت للزبير إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان، قال أما إني لم أفارقه ولكن سمعته يقول: من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار"[17]. وروى الخطيب في الكفاية "قيل لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك لا تحدث كما يحدث فلان وفلان؟ فقال: «ما بي ألا أكون سمعت مثل ما سمعوا، أو حضرت مثل ما حضروا، ولكن لم يدرس الأمر بعد، والناس متماسكون، فأنا أجد من يكفيني، وأكره التزيد والنقصان في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم»[18]. وقد نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الحديث بكل ما سمعوا لاختلاف ظروفه، والحاجة إلى التفقه فيه ومعرفة مناطاته، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذباً أن يُحدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ"[19]. وقد التزم رضي الله عنه بهذا، فقد قال: «حفظت من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وِعَاءَيْن، فأمَّا أحدهما: فَبَثَثْتُه فيكم، وأَمَّا الآخر: فلو بَثَثتُهُ قُطِعَ هذا البُلْعُوم» . وهذا فيه دلالة على أنه فهم معنى ألا يحدث بكل ما سمع.

3: رواية المشهور من الحديث والمعروف واجتناب الغريب والمنكر والقصص

لقد سلك الخلفاء الراشدون نظاما تربويا في رواية الحديث، حماية للأصول ومشاهير السنن، فشددوا في رواية أحاديث الأحكام، وطلبوا المشهور منها، وحذروا من إذاعة الغرائب وما لا يعرفونه، وكانوا إذا انفرد الواحد منهم بشيء مما لا يخفى يعرضون عنه، أو يطلبون له عاضدا، وقد سلك هذا المسلك التابعون من بعدهم وفقهاء الأمصار، فكانوا لا يهتمون كثيرا بالحديث الفرد والعزيز والشاذ، لأن هذه الأنواع تفرق ولا تجمع،  فقد رأينا كيف شدد الخليفة عمر في الرواية وأعطى فرصة لمشاهير السنن لتستقر وللعمل أن يستمر ويعلم، ولم يلتفت عمر رضي الله عنه لحديث فاطمة بنت قيس في ترك نفقة المبتوتة وسكناها، لانفرادها به، وأخرج البخاري في صحيحه عن علي رضي الله عنه قال: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله"[20]، قال الإمام الذهبي: «فقد زجر الإمام علي رضي الله عنه عن رواية المنكر، وحث على التحديث بالمشهور"[21]. ونقل هذا عن الخليفة عثمان رضي الله عنه فقد رأى أن الأحاديث المشهورة في عهد الخليفتين السابقين هي المعيار؛ قال محمود بن لبيد: سمعت عثمان على المنبر يقول: «لا يحل لأحد يروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر"[22]. وأخرج مسلم عن مجاهد قال: «جاء بشير العدويّ إلى ابن عباس رضي الله عنه فجعل يحدِّث ويقول: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجعل ابن عباس لا يأذَن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال بُشير: يا ابن عباس ما لي لا أراك تسمعُ لحديثي، أُحدِّثكَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: «إنا كنا مرَّة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرتْه أبصَارُنا، وأصغينا إليه بأسماعنا، فلما ركب الناسُ الصَّعْبَ والذَّلول لم نأخذ من الناس إلا ما نَعْرِفُ»[23]. وبهذا صارت السنن المشهورة حجة على الغرائب، وأصبحت الغرائب في مرمى الصحابة حفظا للسنة.

4: اعتبار حال السامع، وحال الزمن

ومن مسالك الصحابة في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يحدثون كل الناس بحديث الرسول، بل يتخيرون لكل حديث قومه وأهله، والزمن الذي يصلح له، درءا للفتنة بالحديث، وما أخطر فتنة الحديث؛ فقد قال سفيان بن عيينة: "الحديث مضلة إلا للفقهاء" أي الذين يعرفون مراميه ومقاصده وكيفية تنزيله، وأخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «ما أنت بمُحَدِّث قوماً حديثاً لا تَبلُغُه عقُولهم إِلا كان لبعضهم فِتْنة»[24]، وذكر ابن عبد البر في جامع بيان العلم عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: «ما حدثت أحدا بشيء من العلم قط لم يبلغه عقله إلا كان ضلالا عليه»»[25]، وكلها آثار تدل على أن الصحابة كانوا يتخيرون مجالسهم ولا يلقون الأحاديث لكل الناس، وقد تعلم التابعون لهم هذه المسالك. وتقدم عن أبي هريرة أنه لم يحدث بوعاء مما أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وتقدمت قصة عبد الله بن الزبير وفتنة هدم الكعبة لما عمل بحديث ظلت عائشة رضي الله عنها تخص به أهله.

5: الاكتفاء بالرواية عند الحاجة إليها

إن اعتماد الرواية عند الحاجة يفيد في ربط الدليل بالحكم، والحكم بمناطه، وكثيرا ما كان الخلفاء يسألون عمن يحفظ في النازلة شيئا من العلم، كما أن عددا من الصحابة كانوا لا يروون إلا إذا نزلت بالناس نازلة يحفظ فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علما، ومن ذلك ما أخرجه مالك في الموطأ: «جاءت الجَدَّةُ أمُّ الأمِّ، إلى أبي بكر، تسأله ميراثَها، فقال: ما لَكِ في كتاب الله شَيء، وما علمتُ لكِ في سُنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فارجعي حتى أسألَ الناس، فسأل الناسَ، فقال المغيرة بن شعبة: حضرتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السُّدسَ"[26]. ومن ذلك ما رواه عبد الرحمن بن عوف في شأن الطاعون وذلك بعد ما استشار عمر رضي الله عنه الأنصار والمهاجرين، فقد أخرج عنه البخاري قال: " فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجته فقال إن عندي في هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه قال فحمد الله عمر ثم انصرف" فلم يخبر عبد الرحمن بهذا الحديث إلا بسبب النازلة.

6: الاحتياط والتثبت والتشديد على من ينقل الحديث

لقد شدد الصحابة كما مر على من تصدى لنقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلموهم بأن الأمر دين فلابد من التثبت، فمنهم من كان يطلب الشاهد على أحاديث الأحكام، ومنهم من كان يستحلف، ومنهم من كان يطلب سندا، أما طلب الشاهد فقد مر آنفا نازلة الجدة حيث طلب أبو بكر رضي الله عنه من المغيرة أن يأتيه بمن سمع معه، فجاء بمحمد بن مسلمة، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب لما استأذن عليه أبو موسى ثلاثا ثم انصرف واستشهد بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم "الاستئذان ثلاثا" طلب منه من يشهد له وإلا ضربه بالدرة فجاء بأبي سعيد الخدري. وكان علي يستحلف بعض من ينقل له حديثا، إلا أن هذه الوقائع كلها تدل على التشديد في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتحذير من التساهل فيه، والاحتياط للدين.

الخاتمة:

مما سبق يتبين أن الصحابة قد تلقوا السنن والعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأفضل أوجه التلقي، مما يعطي قوة الفهم، وجودة الحفظ، ووسائل التذكر، ومع ذلك فقد رأينا التحذير من الكذب في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمنهج الذي رسمه لصحابته في الرواية عنه، وقد أثمر هذا المنهج قلة المكثرين من النقل وكثرة الفقهاء، فسلك الخلفاء حسبة منهجا تعليميا قائما على ترسيخ الثوابت من السنن المشهورة، ودعم حفظ القرآن والعناية به وتوسيع دائرة حفاظه، وفرضوا منهج الإقلال من الرواية، والإكثار من التفقه في السنن والأحكام، لأنها محكومة بالعمل المستمر من عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ومنعوا الغرائب والمناكير وما لا يعرفه الناس في دينهم ومعاملاتهم. والله الهادي إلى الصواب. 

الأستاذ محمد ناصيري

 

الحواشي:

 



[1] أخرجه البخاري كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة، ومسلم رقم (674) في المساجد، باب من أحق بالإمامة

[2] أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1108)، كتاب الصوم باب أن القبلة في الصوم ليست محرمة.

[3] أخرجه البخاري في صحيحه كتاب العلم باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره رقم 88

[4] أخرجه البخاري كتاب العلم باب التناوب في العلم رقم87

[5] أخرجه البخاري في الصحيح كتاب العلم باب من جعل لأهل العلم أياما معلومة رقم 68

[6] أخرجه البخاري في صحيحه في الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت، ومسلم في صحيحه رقم (4) في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

[7] أخرجه مسلم رقم (2) في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

[8] أخرجه مسلم في المقدمة، باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين

[9] أخرجه البخاري في صحيحه كتاب العلم باب باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا

[10] أخرجه البخاري في صحيحه في العلم، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه. ومسلم في صحيحه رقم (1333) في الحج، باب نقض الكعبة وبنائها

[11] وإن كان قتله حقيقة لأسباب أخرى هي الدعوة لنفسه

[12] أخرجه أبو داود والترمذي

[13]  رواه البخاري في كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل

[14] أخرجه الدارمي 1/329

[15] جامع بيان العلم وفضله 2/1010

[16] شرف أصحاب الحديث ص88

[17] أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم

[18] الكفاية ص 171

[19] أخرجه مسلم في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع

[20] أخرجه البخاري في الصحيح، في كتاب العلم، باب من خص قوماً دون قوم في العلم، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/1003

[21] تذكرة الحفاظ 1/15

[22] السنة قبل التدوين ص97، ذكر مصدره ولم أقف عليه

[23] أخرجه مسلم في المقدمة، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها

[24] أخرجه مسلم في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع

[25] جامع بيان العلم وفضله (1/ 539)

[26] مالك في الموطأ 2 / 513 في الفرائض، باب ميراث الجدة