إن من المعلوم من الدين بالضرورة أن توقير النبي صلى الله عليه وسلم واحترامه واجب على كل مسلم ومسلمة؛ يقول تعالى واصفاً هذا الأمر: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ (الفتح: 8، 9). وقد تحدث صاحب الشفا عن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على الأنام، فبين وفصل فيما يتعلق بتوقيره ومحبته ونصرته وطاعته، ومن الأمور التي توقف عندها القاضي عياض قوله: إن احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره يستلزم أمراً آخر، والمتعلق أساساً بتوقير أصحابه الكرام، فتوقير الصحابة من توقير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة هم الذين نقلوا هذا الدين إلى الأجيال اللاحقة وحافظوا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبث العابثين والوضاعين.
محبة الصحابة وتوقيرهم
وقد ورد في القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات والأحاديث ما يحث على محبتهم وتوقيرهم، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباُ ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه". ففي الحديث النهي عن كل ما من شأنه أن ينقص من قدر الصحابة، سواء تعلق الأمر بعدالتهم أو بأشخاصهم رضي الله عنهم.
معرفة الصحابي
قال الإمام الحافظ ابن حجر في تعريف الصحابي إنه: "من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً ومات على الإسلام ولو تخللت ذلك ردة على الأصح". وعلماء الحديث بحثوا عن المعايير التي يعرف بها الصحابي، فتوصلوا إلى أن معرفة الصحابي إنما تكون بأحد الأمور الخمسة:
الأمر الأول: ما يثبت بالتواتر، كصحبة أبي بكر وصحبة عمر رضي الله عنهما.
الأمر الثاني: الشهرة، أي أن المسألة لم تصل إلى حد التواتر كصحبة ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه.
الأمر الثالث: إخبار الصحابي بذلك، بأن يخبر عن صحبة رجل آخر لرسول الله صلى الله عليه و سلم.
الأمر الرابع: إخبار ثقة من التابعين، بأن يصرح بأن فلانا صحابي.
الأمر الخامس: أن يخبر الصحابي عن نفسه، شريطة أن يكون عدلاً وأن تكون دعواه ممكنة. ومن هنا جعل علماء الحديث مائة سنة بعد وفاة رسول الله مدة تثبت بها الصحبة.
فوائد معرفة الصحابة
إن معرفة الصحابة تفيد فيما يتعلق بعلم الحديث الشريف، لأن معرفة الصحابة تمكّن من معرفة المتصل من المرسل، كما أن معرفة الصحابة لها فوائد عظيمة على مستوى فهم الدين عموماً، وعلى مستوى الحديث النبوي الشريف على وجه الخصوص. ولذلك كرس العلماء جهودهم وخصّصوا كتباً تترجم للصحابة الكرام، فهناك على سبيل المثال كتاب "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" للحافظ المغربي ابن عبد البر، وكتاب "أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير، وكتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" للحافظ بن حجر. فتحصّل أن معرفة قدر الصحابة وإدراك منزلتهم واجب؛ لأن هذا الدين إنما نقل عنهم، ومعرفة المنقول تقتضي معرفة الناقل.
الصحابة في القرآن الكريم
وأفضل ما يستعان به لمعرفة قدر الصحابة وعدالتهم وصدقهم القرآن الكريم الذي شهد لهم بالعدالة وعلو قدرهم ومكانتهم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحشر: 8)؛ حيث وصفهم بالصدق، وقوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 101)؛ حيث أسبغ عليهم رضوانه، ووصفهم بأنهم خير أمة كما في قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتومِنُونَ بِاللَّـهِ﴾ (البقرة: 110).
الصحابة في السنة النبوية
كما أن هناك أحاديث تتحدث عن الصحابة وتصف أحوالهم وتبرز ما كانوا عليه من سمو الفضل، ومنها إضافة النبي لهم إلى نفسه عندما قال: "دعو لي أصحابي". وهي إضافة تشريف. ومن ذلك الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن أذاهم فقد أذاني، ومن أذاني فقد أذى الله ومن أذى الله يوشك أن يأخذه". ومن ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". والمقصود بقوله قرني الزمن الذي عاشه الصحابة رضوان الله عليهم. ويكفي الصحابة فخراً وعلواً أنهم اجتهدوا في أن يضعوا الأسس الأولى والقوانين الرئيسة للحديث الشريف من حيث التأكد من قبول الحديث أو رده، إذ عند البحث فيما وصل إليه علماء الحديث، فيما يرتبط بالمصطلح والتقعيد، نجد أن هذه المحاولات التي وصلوا إليها إنما هي مبنية على اجتهاد الصحابة الكرام، لأن قوانين الرواية بدأت مع الصحابة الكرام، فهم الذين وضعوا قوانين أساسية في نقد الحديث وفي التأكد من المرويات.
الصحابة ورواية الحديث
وإجمالاً تجسدت قوانين الرواية في عهد الصحابة في أمور ثلاثة:
الأمر الأول: التقليل من الرواية، مستحضرين وعيد النبي صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع"؛ لذلك نجد عند الصحابة رضي الله عنهم روايات قليلة حتى إن من وصف من المكثرين كأبي هريرة فجملة ما رواه قد شاركه فيه غيره، أو هو من قبيل المكرر، في حين أن جملة ما انفرد به من الأحاديث لايتجاوز مئة وعشرة أحاديث تقريبا.
الأمر الثاني: التثبت في رواية الحديث سواء تعلق الأمر بالتحمل أو الأداء، مثاله قصة أبي بكر في ميراث الجدة السدس.
الأمر الثالث: نقد المرويات وعرضها على النصوص وقواعد الدين.
النهي عن سب الصحابة
قول صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي..."، هذا الحديث يتضمن أمورا منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه سيأتي على الأمة زمان تكون فيه طوائف تسب أصحابه الكرام، والمراد بالسب كل كلام يقصد منه الاستخفاف والانتقاص. وقد عدّ الحافظ الذهبي في كتابه "الكبائر" سب الصحابة من جملة الكبائر، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله من سب أصحابي"، وسب الصحابة أيضاً علامة من علامات النفاق، يقول صلى الله عليه وسلم: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار". قال الإمام مالك رحمه الله: من أصبح وفي قلبه بغض على أحد من الصحابة فقد أصابته الآية، بمعنى النفاق.
منزلة الصحابة
إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالصحابة الكرام لأنهم حملة الدين ونقلة الحديث النبوي الشريف.
وهذا يستوجب على المؤمن أن يعتبر أن حب الصحابة عقيدة، وتقديرهم واحترامهم والدفاع عنهم من الدين، وأن سبهم أو التنقيص من قدرهم أو النيل من سمعتهم يبعث على الشك في إسلام الفاعل.
د. المصطفى زمهنى