وجه أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس رسالة سامية إلى المشاركين في اللقاء الأول للعالمات والواعظات والمرشدات الذي انطلقت أشغاله يوم الجمعة 17 يوليو 2009 بالصخيرات.
وقد دعا أمير المؤمنين في هذه الرسالة الملكية السامية الأجهزة والمؤسسات الدينية إلى العمل على تجديد خطابها، والارتقاء بأدائها، ليواكب ما يشهده المجتمع المغربي من حركية، وما يعرفه من تطور فكري وثقافي، وما يعيشه العالم من تحولات متسارعة.
وفي ما يلي نص الرسالة الملكية السامية التي تلاها وزير الاوقاف والشؤون الاسلامية السيد أحمد التوفيق:
" الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
حضرات السيدات العالمات والواعظات والمرشدات،
لقد حرصنا، منذ أن تقلدنا الإمامة العظمى، مطوقين بالبيعة الوثقى، على قيادة شعبنا الأبي، على طريق التقدم والعزة والكرامة وتحقيق المواطنة الكاملة لكل أبنائه، جاعلين في صدارة انشغالنا، الارتقاء بأحواله، في مدارج التنمية الشاملة، وتأهيل أجيالنا للاندماج في حركية الإبداع والتجديد.
ولم يكن ليتأتى ذلك، إلا بالتصدي، بلا هوادة، لكل مظاهر التخلف والإقصاء والتهميش. ولن يهدأ لنا بال، أو يرتاح لنا ضمير، حتى يكلل الله جهودنا بالنجاح الظاهر، والنصر الباهر، وصدق الله العظيم القائل في محكم التنزيل : "ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر".
وها هي قافلة التنمية البشرية، التي اخترناها عنوانا لمشروعنا المجتمعي، الحضاري التجديدي الشامل، تواصل، بعون الله وتوفيقه، مسيرتها الظافرة نحو تحقيق الأهداف التي رسمناها، والمقاصد التي توخيناها.
وكما لا يخفى عليكم، فإن أي تنمية للإنسان، لا تأخذ بعين الاعتبار بعديه الروحي والجسدي، تظل ناقصة وبدون جدوى. وبالتالي لن يتحقق معها التوازن المبتغى، والإصلاح المنشود.
ومن أجل ذلك، فإن ما نبذله من جهود دؤوبة، وما نطلقه من أوراش كبرى، في سبيل النهوض بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطن المغربي، لا يعادله إلا ما نقوم به من مبادرات، للرقي بالبعد الروحي، بكل مستوياته، ثقافيا ودينيا. وذلك من خلال الإصلاحات العميقة، التي تشمل مختلف الهيآت والمؤسسات، ذات الصلة بالشأن الديني.
ويأتي في طليعتها مؤسسة العلماء، التي نرأس مجلسها الأعلى، والتي أصبحت حاضرة في كل إقليم وعمالة من مملكتنا الشريفة. بل تجاوزت حدود الوطن، لتشمل جاليتنا العزيزة، ببلاد المهجر، حيث مكناها من مجلسها العلمي، الذي يعنى بشؤونها الدينية، ويساهم في صيانة هويتها المذهبية والوطنية.
وإننا لنتابع عن كثب، وباهتمام بالغ، نتائج هذه التوسعة، وآثارها الإيجابية على حياة المواطنين، وأمنهم الروحي والمذهبي، وتحصين معتقداتهم، دحضا للشبهات والأباطيل، ووقوفا في وجه التطرف والغلو والانغلاق.
ومن منطلق الأمانة المنوطة بنا، كأمير للمؤمنين، ما فتئنا نحرص على صيانة الأجهزة والمؤسسات الدينية، وتفقد أحوالها. وفي مقدمتها مساجد الله، وبيوت عبادته. باعتبارها قبلة للمصلين، ومنارة للهدى، وموعظة للمؤمنين.
وفي هذا الإطار، ندعو إلى العمل على تجديد خطابها، والارتقاء بأدائها، ليواكب ما يشهده المجتمع المغربي من حركية، وما يعرفه من تطور فكري وثقافي، وما يعيشه العالم من تحولات متسارعة.
وقد أصدرنا أمرنا السامي بالنهوض بأوضاع القائمين عليها، ماديا ومعنويا، وتحسين ظروفهم الاجتماعية، وتوفير الحياة الكريمة لهم ولأسرهم، وتمكينهم من التكوين المستمر علميا وفقهيا.
وفي هذا الصدد، أسندنا إلى المجلس العلمي الأعلى، بتنسيق مع وزيرنا في الأوقاف والشؤون الإسلامية، مهمة الإشراف على إعادة تأهيل الأئمة، وتكوينهم بما يرقى بمستواهم العلمي، وأدائهم التربوي والإرشادي، إلى المكانة اللائقة بهم، كقدوة للناس في الدين والسلوك والتقوى. وذلك تطبيقا لروح ومضمون ميثاق العلماء، الذي أعلنا عنه في خطابنا بمدينة تطوان، بمناسبة ليلة القدر المباركة، من شهر رمضان الماضي.
وإن هذا البرنامج الطموح، الذي نتوخى منه تأطير وتأهيل الأئمة، من قبل أماثل علمائنا وعالماتنا، سيكون له أثره العميق وثماره الطيبة، في تجديد رسالة المسجد، والنهوض بدوره التربوي والتنويري.
حضرات السيدات،
في غمرة الإصلاح الواسع للشأن الديني، نولي أهمية خاصة للدور الكبير للمرأة العالمة، ولما يمكن أن تغني به برامجه، من خدمات متنوعة، وخاصة في باب إصلاح الحياة الأسرية، ودنيا المرأة، وتنوير عقول الفتيات، وتنشئتهن على حب الوطن والاعتزاز بثوابته ومقدساته، في تشبث مكين بقيم الإسلام السمحة، ومبادئه الخالدة.
وفي هذا السياق، عملنا على إدماج المرأة العالمة في محيط العلم والعلماء. ففتحنا في وجهها باب المشاركة في المجلس العلمي الأعلى، والمجالس العلمية المحلية، بوصفها عضوا كامل العضوية في المؤسسة العلمية.
وبموازاة ذلك، فتحنا أمامها باب المشاركة في الدروس الحسنية الرمضانية، إلى جانب إخوانها العلماء. فأبانت عن كفايتها العلمية، ولم تكن دون شقائقها من العلماء. وهو ما أثلج صدرنا، ورسخ فيها حسن ظننا.
وإن اهتمامنا الكبير بشؤون المرأة وقضاياها وحقوقها، وحرصنا على تبويئها المكانة اللائقة في الأسرة، ودورها المحوري في المجتمع، هو في جوهره نابع من روح ومبادئ ديننا الحنيف.
فالإسلام كان أول من عالج قضية المرأة، وأعلى شأنها، ورفع الأغلال عنها، وأعاد لها مكانتها في المجتمع. فكرس الحق سبحانه مساواتها بالرجل في محكم تنزيله : "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف". ثم جاء توكيده، بلسان جدنا المصطفى، عليه الصلاة والسلام : "النساء شقائق الرجال".
وإن لنا في سياستنا التحريرية والتحررية، وسهرنا على إحقاق الحقوق، وتحقيق الإنصاف، إسوة حسنة بجدنا المغفور له، الإمام الصالح المصلح، محمد الخامس، وبوارث سره، والدنا المنعم، الملك الحسن الثاني، خلد الله في الصالحات ذكرهما.
فقد أدركا أن الأمة لا يمكن أن تنهض من كبوتها، وتستعيد حريتها وكرامتها، إلا إذا تسلح رجالها ونساؤها، على حد سواء، بسلاح العلم، وأخذوا بناصية المعرفة، وتم تحرير الإنسان المغربي من براثن الجهل والأمية.
ومن هنا جاء حرصهما، رحمهما الله، على إزاحة الحواجز الوهمية، التي صنعتها بعض الأعراف والتقاليد العقيمة، في وجه تعليم المرأة وتربيتها. ففتحا أمامها باب المعرفة والتحصيل، في مختلف المجالات العلمية والفقهية والأدبية، والإسهام بنصيبها الوافر في كل مناحي الحياة الوطنية.
وهكذا، فقد تخرجت عالمات نابغات في مجال العلوم الشرعية، من جامعة القرويين، استطعن باجتهادهن وصبرهن، أن ينلن أرفع الشهادات. ومن أهمها شهادة "العالمية"، التي كانت لا تمنح إلا لمن أتقن علوم الشريعة، ومهر في فنونها.
حضرات السيدات العالمات والواعظات والمرشدات،
إننا نتوخى من هذا الملتقي العلمي الهام، الذي يحظى برعاية ومباركة جلالتنا، انبثاق نموذج جديد للفقيهة العالمة، التي تجمع بين القديم والجديد، والطارف والتليد. فقيهة متنورة، تساهم في تحقيق أمن روحي شامل، وبعث إسلامي متوازن، في إطار المذهب السني المالكي، وفي ظل الإمامة العظمى، القائمة على البيعة المتبادلة، والميثاق الراسخ بين الراعي والرعية.
ومن هذا المنطلق، فأنتن مدعوات اليوم، إلى المساهمة الفاعلة في محاربة التخلف والإقصاء، وتنوير العقول والقلوب، وتنقيتها من سقيم الفكر وفاسد الاعتقاد، ومن نزوعات التطرف والانغلاق.
فعليكن، معشر العالمات والواعظات والمرشدات، أن تعملن على توطين النفس، وتتحولن إلى قوة نافذة متحركة داخل المجتمع، لإصلاح ما يحتاج إلى إصلاح، وإذكاء شعلة الغيرة الدينية والوطنية في القلوب والمشاعر. وكل ذلك في تشبث راسخ بثوابت الأمة وهويتها الوطنية، والتزام كامل بخصوصياتها المذهبية.
سدد الله خطاكن، وأنجح مسعاكن، حتى تخرجن من هذا الملتقى بخطط وبرامج، في ميدان التأطير الديني للمرأة، تكون في مستوى طموحنا الكبير، والإقبال المتزايد للنساء المغربيات على الاستمداد من حكمة الدين ومكارمه.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب". صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته"